لعلها المصادفة أن تكون «الوسط» الصحيفة اليومية الأولى التي تصدر في البحرين في مطلع عهد الإصلاح. والمصادفة أعطت دينامية خاصة لـ «الوسط» وفرضت عليها أن تبذل الجهد المضاعف للنجاح في الامتحان. نجاح «الوسط» كان تجربة ميدانية يومية لمدى إمكان النجاح في مختلف القطاعات. والفشل كان يعني ليس فشلا للصحافة المعاصرة فقط وإنما بداية فشل للتجربة كلها وما تعنيه من آفاق الانفتاح والتواصل على مختلف شئون الوطن ومحيطه العربي - الإسلامي.
الامتحان في بداياته الأولى كان صعبا للغاية. كانت هناك تحديات متنوعة الأشكال والألوان معطوفة على روح المغامرة وإمكانات اختراق السوق وإقناع القارئ بأن هناك فسحة تحتمل الدخول في تجربة مغايرة على مستويات صوغ الخبر واختيار الصورة وتقنيات الكتابة وترتيب الفقرات وإعادة تركيبها لتتناسب مع منهجية قادرة على التكيف مع المزاج العام وقدرته على تقبل الاختلاف في التوجه المتعارف عليه.
نجاح «الوسط» في العام 2002 ترتبت عليه مجموعة نجاحات لا تقتصر على المهنية والحرفية والشكل والإخراج والتبويب والجرأة في طرح موضوعات مسكوت عنها وإنما أيضا تطاول جملة موضوعات تتصل بالالتزام بشروط الحرية وعدم التفريط بها أو توظيفها باتجاهات صبيانية تعطل إمكانات التعاضد الوطني وتعرقل احتمالات تطور التجربة نحو المزيد من التقدم والانفتاح في إطار التنوع والوحدة. فالنجاح كان مسئولية وطنية تتجاوز في عمقها وأبعادها حدود صحيفة يومية. وبسبب تلك المسئولية المزدوجة التي شاءت المصادفة أن تتجاور في آلياتها قوانين الصحافة مع الإحساس بعدم التفريط بالحريات العامة استطاعت «الوسط» أن تتجاوز الامتحان وأن تتخطى كل تلك المعوقات الطبيعية والحواجز المصطنعة لتؤكد بأن البحرين مؤهلة ثقافيا ونفسيا لاستقبال فصل جديد يستعد لإطلاق ربيع الصحافة.
تأسيس «الوسط» في 7 سبتمبر/ أيلول 2002 يشكل الآن وبعد مضي ست سنوات على انطلاق التجربة مناسبة للاحتفال بعيد ربيع الصحافة. فالنجاح الذي تحقق أعطى إشارة إيجابية بأن «ربيع الصحافة» في البحرين ليس مؤقتا ولا يحسب بالأسابيع والشهور والفصول وإنما بداية لنمو «الربيع الدائم».
نجاح «الوسط» في الامتحان أدى إلى توليد ديناميات أعطت مفعولها السيكولوجي ما شجع الكثير من القطاعات وأصحاب المال والأعمال على الاستثمار في حقل يتسم عادة بالمغامرة ويحتاج إلى عقول وسواعد للبناء في وسطه من دون مخاوف من مجهول.
الآن وبعد تلك السنوات الطوال بات بالإمكان القول إن البحرين تعيش فترة «ربيع الصحافة» الدائم. فالربيع الذي بدأ يومه في 7 سبتمبر أعطى المجال لنمو البراعم اليومية والأسبوعية وفتح الأبواب لفرص الخوض في تجارب مشابهة لترفع من درجات الانفتاح والتلاقح على مستويات مختلفة. بعد ذاك اليوم أصبحت الاحتمالات مفتوحة وأخذ الربيع ينتشر ويمتد ليعطي ذاك الزخم المطلوب لتحريك السوق من خلال تنوع العناوين. فمن شروط نجاح السوق تعدد البضاعة حتى يكون التنافس هو الرافعة التي تدفع نحو التطوير والتحسين وبالتالي تجاوز مطبات الكسل والروتين والركود.
التنافس قوة وليس ضعفا، فهو المؤشر على الجودة وهو المادة السحرية التي تشجع على ديمومة الانتباه واليقظة وعدم الاتكال على الدعم الجانبي أو الاسترخاء على عتبة الاحتكار. وهذا هو معنى التنافس الحقيقي الذي يعطي تلك النكهة الخاصة لنمو الربيع الدائم ومنع انزلاقه نحو الجفاف واليباس والقحط.
مسئولية مشتركة
ربيع الصحافة في البحرين يتطلب المحافظة عليه والعناية به حرصا على تطويره نحو الجمال الدائم. ومثل هذه المسئولية ليست مهمة مهنية وحرفية فقط وإنما خطوة ضرورية في إطار مشروع وطني لا يتكامل ويتطور من دون تنوع يضمن الوحدة ويعطل كل محاولات تقويضها سواء بالالتفاف حولها أو الانقضاض عليها.
حماية ربيع الصحافة في البحرين مسئولية وطنية تتجاوز الحدود لأنها تعتبر خطوة لتوسيع نافذة الحريات العامة في المحيط. فالصحافة الخليجية شهدت بدورها في السنوات الأخيرة قفزات كمية ونوعية في الكويت والإمارات وقطر حين تنافست القوى على اختلافها على خوض التجربة والدخول في معركة «مهنة المتاعب» بهدف كسر الاحتكار وفتح الأبواب على مجالات تحتمل الكثير من المجازفة.
السوق في النهاية هي الحكم الذي يسجل النقاط لهذا الفريق أو ذاك. وشرط نجاح السوق هو أن تعطى الحرية للتنافس من دون مراهنة على سلطة ما، ومن دون اعتماد على مصدر خفي يغطي تلك الثغرات والفجوات الناجمة عن الضعف البنيوي.
لعبة السوق لا تقل أهمية في جودتها ودورها عن الزخم الذي يولده في العقول والسواعد حب الإنسان للحرية. فالحرية هي الشرط المعنوي لتطور التنافس تحت سقف الالتزام بقوانين السوق وعدم التفريط بتلك المساحة المفتوحة لقول الحقيقة.
الالتزام بالحرية مسئولية جماعية لأنه يشكل الإطار المشترك الذي يضبط الخطوات ويوقظ الذاكرة وينبه إلى عدم الإفراط باستخدام مفهوم الحرية عشوائيا تجنبا لانهياره أو انزلاقه نحو الفوضى. فالحرية هي احترام الآخر وترويض الذات للقبول بالاتجاه المغاير وضمان وحدة التنوع.
الحرية في النهاية هي واقع وليست أوهاما. ومن شروط نجاحها الضبط العقلاني لتلك العلاقة السحرية بين الحلم وظروف التطور. وربيع الصحافة في البحرين لا يمكن رصد تفاعلاته خارج قاعدة الحرية وظروفها وإطارها ومحيطها. فلكل ربيع قواعده وشروطه. وربيع البحرين يختلف في هذا المعنى الاستثنائي عن «ربيع براغ» أو «ربيع بكين» أو «ربيع بيروت» أو «ربيع دمشق». فالربيع يخضع في النهاية لشروط المكان والزمان والطقس والظروف والمحيط. ربيع براغ انهار في نهاية الستينات تحت أرتال الدبابات السوفياتية. وربيع بكين تبخر في نهاية الثمانينات بسبب استبداد «الدولة». وربيع بيروت تفكك بسبب عشوائية الطوائف وهواجسها. وربيع دمشق انعزل نتيجة مخاوف نظام يبالغ في المخاطر المحيطة به. لكل ربيع قوانينه التي تحدد في النهاية شروط نجاحه أو فشله. ولكل صحيفة مجالها الحيوي تتحرك فيه ومنه تأخذ القديم وتعطي الجديد. فكل صحيفة إضافة جزئية. ومجموع الأجزاء تتناسق لتهندس تنوع الألوان في الحديقة.
حتى الآن نجح ربيع الصحافة في البحرين بالصمود والنمو والتطور بدليل اتساع السوق لمزيد من العناوين التي تشجعت بذاك النجاح الذي تولد بعد صدور «الوسط». لعلها المصادفة أعطت «الوسط» سبق الريادة للدخول في دائرة التنافس ولكن النجاح ساهمت في تكوينه مجموعة شروط دمجت بين المهنية والحرفية وبين مناخ حرية مدروسة تتطلب المزيد من الوعي الجمعي المسئول عن حماية شروطها حتى تتواصل وتستمر في تطويل فصل الربيع ومنعه من الانتكاس أو السقوط. وهذا النوع من المسئولية لا يقوم إلا بتوليد ذاك الإحساس العام والمشترك الذي يحرص على الاحتفاظ بالمكاسب وعدم التفريط بها لدوافع يتحكم بها أحيانا ضعف الوعي وعدم القدرة على تهذيب الاختلاف وتطويع الانفعالات ومنع انحرافها مسلكيا أو لغويا
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2194 - الأحد 07 سبتمبر 2008م الموافق 06 رمضان 1429هـ