الارتباك الذي أصاب «حماس» بعد إعلان الموفد الأميركي جون كيري خلال زيارته لقطاع غزة أنه تلقى رسالة من الحركة موجهة مباشرة إلى الرئيس باراك أوباما يستحق القراءة للتعرف على سياسة يمكن التقاط ذبذباتها من وراء السطور و«الستار». الناطق باسم كيري قال إنه تسلم مغلفا مختوما من مسئول في الأمم المتحدة موجها إلى الرئيس الأميركي. وإن الوفد الزائر لم يفتح الرسالة بل سلمها إلى القنصلية الأميركية في القدس لتمر بالقنوات الصحيحة. وإن القنصلية تدرس كيفية التعامل مع الرسالة.
إعلان كيري أربك «حماس» ووضعها في موقف مضطرب. وكانت ردة فعلها العفوية إنكار الخبر جملة وتفصيلا إذ نفى الناطق باسم الحركة فوزي برهوم تسليم كيري أي رسالة. بعد ساعات على الإنكار المطلق صححت «حماس» روايتها واعترفت بأن هناك رسالة فعلا ولكنها موجهة من حكومة إسماعيل هنية المقالة وليس من الحركة التي لا تدري بأصلها وفصلها. ومضت ساعات أخرى وإذ يعاد تصحيح الرواية الثانية بالقول إن حكومة هنية لم توجه رسالة وإنما مستشار رئيس الحكومة المقالة والقيادي في «حماس» أحمد يوسف هو من كتب الرسالة ووجهها باسمه «الشخصي» يشرح فيها للرئيس الأميركي «مواقف الحركة ورؤيتها».
الروايات الثلاث التي صدرت عن «حماس» في يوم واحد تشير إلى حال من الاضطراب بسبب تعارض المصادر وتناقض الشروح. فالأولى نفت بالمطلق علمها، الثانية رمت المسئولية على حكومة هنية المقالة، الثالثة برأت ساحة الحكومة وحشرت التهمة بوزير مقال كتبها على مسئوليته ومبادرة «شخصية» من جانبه.
لم يقتصر الارتباك على مستوى الروايات الثلاث وإنما ذهب الأمر بعد ساعات إلى مزيد من الوضوح. فهل الوزير المقال (المستشار والقيادي) كتب الرسالة من دون علم الحركة ومن دون اطلاع رئيس الحكومة المقالة على مضمونها وفحواها؟ الأجوبة أيضا جاءت مضطربة ومتخالفة. الراوية الأولى قالت إن الرسالة «شخصية»، ثم جاءت الثانية لتشير إلى أن الحركة كانت على علم، إلى أن ظهرت طبعة ثالثة للرواية تؤكد من جانب كاتب الرسالة (أحمد يوسف) أن الحكومة المقالة وافقت على مضمون «رسالته التي نقلها إلى مسئولي وكالة الأمم المتحدة» مبررا المسألة بالقول «حاولنا استغلال الفرصة». و«حاولنا» تعني أن الرسالة ليست «شخصية» بل جماعية وهي أيضا ليست بالضرورة «عاطفية» وإنما سياسية.
ارتباك «حماس» له دلالاته في التعامل مع الخبر. والتلعثم في السياسة يقارب كثيرا التلعثم النفسي الذي يصاب به الأفراد في لحظة التردد ما يؤدي إلى تعطل مخارج الحروف والألفاظ فتخرج الفقرات ناقصة أو مشوهه أو مستبدلة. وهذا ما حصل حين أعلن الموفد الأميركي أنه تلقى رسالة من «حماس» موجهة مباشرة إلى الرئيس باراك أوباما. فالرسالة كما تبين لاحقا لم تكن «شخصية» وإنما كتبها شخص بعلم الحكومة وبمعرفة من قادة الحركة وتقصد إيصالها للموفد بأسلوب دائري حتى لا يقال أن هناك اتصالات مباشرة بين غزة وواشنطن.
مفاجأة كيري
الخوف من تهمة الاتصال (وما تعنيه التهمة فلسطينيا) يفسر إلى حد جزئي ذاك الارتباك والالتواء في توضيح الصورة. إلا أن الأجزاء الأخرى وهي الأهم يمكن ملاحظتها من احتمالين: الأول، عنصر المفاجأة الأميركي. فحماس لم تكن تتوقع من الموفد كيري الكشف عن الرسالة وإعلانه لوكالات الأنباء أنه لم يفتحها وسلمها للقنصلية لتصل من خلال القنوات الدبلوماسية الصحيحة. الثاني، الخوف من نشر الرسالة والكشف عن مضمونها ما يعني أن «سر» الاتصال يمكن أن يتحول إلى فضيحة تفتح الباب أمام خفايا وخبايا تعطل الكثير من الأفعال التي تتم عادة من وراء الستار.
المفاجأة ساهمت في توليد مخاوف ما أدى إلى ارتباك «حماس» لأنها لم تكن تتوقع من كيري أن يقول قوله، واعتقدت أنه سيقوم بنشر الرسالة في الصحف فسارعت إلى إنكارها ثم تراجعت إلى مرتبة تحميل حكومة هنية المسئولية، ثم حصرت المسئولية بمستشار رئيس الحكومة المقالة. وحين أعلن كيري أنه لم يفتح الرسالة ولن ينشرها وأنه سلمها مقفلة للقنصل الأميركي في القدس تراجعت حدة الخوف والقلق وسارع يوسف إلى الإفصاح عن مبادرته الشخصية التي اطلعت الحكومة عليها ووافقت على مضمونها.
كل هذه المواد الأولية التي تجمعت بخصوص «رسالة» تؤكد جانب المفاجأة واختلاف أسلوب إدارة أوباما عن إدارة جورج بوش. فالأخير يفضل العمل السري (تحت الأرض) ويبتعد عن الوضوح والصراحة والشفافية ويستخدم الطرق الملتوية في إبلاغ الرسائل وتبليغها. وهذا الظن اعتمدت عليه «حماس» حين قررت قيادتها تسليم رسالة للموفد الأميركي. فالحركة اعتقدت أن كيري لن يخرق حاجز الصمت ويتجاوز الدبلوماسية ويكشف عن «رسالة». فالكشف فضح المسألة واضطر «حماس» لتوضيح خلفيات الموضوع بروايات مختلفة أخذت تتعدل ساعة بعد ساعة.
إعلان كيري عن تسلمه رسالة كان محاولة من الجانب الأميركي توجيه رسالة مضادة تشير إلى أن أسلوب أوباما يختلف عن بوش وأن الإدارة الجديدة تفضل الوضوح والعلانية والشفافية والعمل «وجها لوجه» من دون دوران أو التفاف.
مفاجأة كيري ضغطت على «حماس» ودفعتها لاحقا للاعتراف حين وجدت أنه لا مهرب من الإنكار. فالاعتراف فضيلة حتى لو جاء متأخرا وتحت وقع الضغط النفسي وخوفا من فتح «الرسالة».
حتى الآن الرسالة لاتزال مغفلة ولم تصل إلى الرئيس أوباما. ومخافة من كشف تفصيلاتها أخذ المستشار أحمد يوسف يوضح بعض خطوطها العريضة. وأهم تلك الخيوط التي كشف اللثام عن كلماتها هي مطالبة الإدارة الأميركية بحل عادل للقضية والابتعاد عن سياسة الانحياز لـ«إسرائيل». والأهم من النقطتين جاءت الثالثة تطالب أوباما بـ«الانفتاح على حماس». والسبب أنها «تتمتع بتأييد كبير في الشارع الفلسطيني». النقطة الثالثة هي الملفتة في الموضوع وربما تكون الحافز من وراء التفكير بتوجيه رسالة. وإذا كان هذا هو العنوان فيرجح أن يكون مضمون الرسالة أفضح. فالعنوان يقول مواربة لواشنطن أن «حماس» هي البديل وعليها أن تقرأ «مواقف الحركة ورؤيتها» وتتعاطف معها وتتعاون في اعتبار أن السلطة فاشلة و«فتح» لا وزن لها ولا قيمة.
هذا هو العنوان... أما الرسالة (المفاجأة) فهي تنتظر النشر لاحقا حتى يمكن الاطلاع على مضمون الرد الأميركي ومن ثم التعرف على سطورها للحكم عليها وتصنيفها تحت خانة «شخصية» أو «سياسية»
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2362 - الأحد 22 فبراير 2009م الموافق 26 صفر 1430هـ