قرأت قصة اسمها «تاكسي» للكاتب خالد الخميسي تعبر عن جولاته مع سائقي التاكسي في القاهرة، وأنه وجد عند بعض السائقين تحليلا سياسيا أكثر عمقا مما يجده في الكثير من المحللين السياسيين ممن يملأون الدنيا صخبا وتبيَّن حضارة هذا الشعب الذي يتجلى في بساطته وطيبته ووطنيته وأن هؤلاء أيضا طبقة تزدان إلى ما سبق بالظرف والنكتة والتسلية، ويتحلون دائما في أحاديثهم بالقدرة الفائقة على تسلية الزبون وخاصة أن الزبون هناك قد تطول ساعات جلوسه مع السائق بسبب زحمة القاهرة الشديدة وكبر مساحتها!
قال: حكى لي أحدهم وكله حماس ووطنية أنه يكره أميركا كره العمى، ويقترح أن نواجههم مثلما يفعلون بنا... وذلك بأن نطالب بمراقبة الانتخابات الأميركية، لأننا ليست لنا ثقة بهم وبسلامة إجراء الانتخابات «تباعِتهم»... وأن نطلب مراقبة دولية على صناديق الانتخابات، ويعرف العالم جميعه كيف زورت انتخابات بوش، وكيف أن أخيه حاكم الولاية هو الذي قام بذلك التزوير بفوز أخيه! وبذلك نحن ندافع عن الديمقراطية، ويجب أن نبعث لهم قضاة مصريين «عشان نضمن سلامة العملية الديمقراطية! وإحنا كده حنخليهم يفهموا همه بيعملوا أيه في الناس ونخرج النار الي في صدورنا»!
و «بكده نيرفع قضية على أميركا وأنها تدعم الإرهاب الدولي وممكن نلاقي بلاد تقف معانا ضد أميركا ثم نطالب بفرض عقوبات اقتصادية ضدها مثلما تفعل معانا الست «رايس» كل يوم»! والكلام لايزال للسائق... ونلغي كلمة أميركا ونبدأ بتجديد كل جنسية مثل أبيض بروتستاني أميركي إيرلندي إسباني أميركي، عربي أميركي، أسود مسلم أميركي، زي ما هم يقولون علينا أنه مات ستة شيعة عراقيين، أو أربعة سنة عراقيين، أو قبطي مصري مسلم مصري... لبناني مسلم شيعي لبناني مسيحي، لبناني سني...الخ.
وأن ندافع عن الأفارقة والعرب الأميركان ونحمي حقوقهم لأنهم أقرب إلينا... وحماية الأقليات المجاورة لنا... وإلا أيه؟!
ثم ضحك بعدها في نهاية حديثه قائلا... ما تخدش في بالك دانا «باطك حنك» إحنا نفرقع خلاص قد ما قالوا لنا إعملوا كده وما تعملوش كده... والكبار اللي بيحكموا راضين يعملوا فينا اي حاجة وهم ساكتين فاضل يحطوا كاميرا في كل بيت مصري عشان يراقبوا الانفجار السكاني إحنا ها نفرقع خلاص، خلونا نخرج النار اللي في صدرنا.
وسائق آخر اختار أن يتكلم عن العراق ويقول إنه قضى أحلى سنوات عمره هناك، وإن العراقيين أجدع ناس وهو لم يتخيل بأن صدام سينهزم؟! هو دارس في القاهرة وبيحب أهلها على فكرة! وصدام كانت له مواقف آخر جدعنه مع المصريين حين آذاهم البعض في العراق... وأصدر قرارا بأن يتعرض للحبس كل من يتعرض للمصريين بالأذى ولمدة ستة أشهر! أما الأميركان الحرامية ضحكوا على العالم كله بالإدارة الخاينة وبحجة الأسلحة الكيماوية وهم كانوا عاوزين البترول تبعنا عند العرب، وهم رتبوا اللعبة دي، لكن العراقيين جدعان ونازلين قتل فيهم لغاية ما يصفُّوهم إنشاء الله، دُول شعب كلهم رجاله حتى ستاتهم رجاله جدعان وهم ما يخرجوا وإلا حيحصل لهم زي اللي حصل في فيتنام.
ويبكي قائلا: سيادتك وأنا عيطت عياط وحسيت إننا بنتعفص زي الحشرات، وإني نملة وما أملكش حاجة أعملها وأي واحد حيهرسني، ويدوس على شرفنا إحنا العرب... بس أملي كبير في إننا ها ننتصر بإذن الله والعبرة في اللي يضحك في الآخر!
هذا بعض من كثير من القصص الرائعة التي قرأتها والفكرة ذكية لكاتب ممتع وبسيط في سرده... شرح أدق التفاصيل لعقلية رجل الشارع الذكي في مصر... وكيف يفكر ويتحاور مع الحوادث التي يراها على الأخبار وفي الشارع ويفهم اللعبة وهي طايرة.
كيفية عذابات هذا الإنسان في شارع لا يرحم وفقر لا يقهر... شعب طيب ومسكين ومغلوب على أمره، لكنه مبدع على رغم كل ظروف الحياة الصعبة... هي هكذا الحياة «ما تتواخدش بالساهل»... حكمة للمصريين!
وكان الله في عونه من شعب عجيب!
إقرأ أيضا لـ "سهيلة آل صفر"العدد 2218 - الأربعاء 01 أكتوبر 2008م الموافق 30 رمضان 1429هـ