في إحدى وزارات الدولة الخدمية التي لا أرغب اليوم في تسميتها، لكن لعلي أميزها عن غيرها من الوزارات الخدمية لأنه عرف عنها سابقا أنها تركز على عمليات التوظيف وعمليات الترقيات، تتم فيها التعيينات عبر عرف غير إداري وغير أخلاقي يعتمد بالدرجة الأساسية على صلات القرابة والنسب، دون الأخذ في الاعتبار الأمور الأخرى كالكفاءة والانضباط الوظيفي والخبرات الطويلة والتفاني والإخلاص في العمل وقد أصاب وزيرها ما أصابه من تجاذبات طائفية صارت في المجلس النيابي، وجرر حينها لاستجواب في الكثير من المحاور لعل هذا المحور واحدا منها.
أحد الموظفين شكا لي همه الكبير وألح طالبا التعبير عن همِّه الذي يحمله على ظهره وظلامته صحافيا بعد أن تعب من الانتظار، ومل من الوعود غير الحقيقية. طبعا لم يلجأ إلى الصحافة، إلا بعد أن فعل الدور الإداري، فقد قام بمراسلة جميع المسئولين من المدير إلى الوزير، لكن لا حياة لمن تنادي... اطلعت على كل الأوراق الخاصة بالموضوع لدراسته ومعرفة مدى أهمية الموضوع واستحقاقه للنشر، وبعد الاطلاع وجدت نفسي متعاطفة معه كثيرا، لعدة أسباب لعل أبرزها:
الموظف الذي نتكلم عنه خدم الوزارة 30 عاما وليس 3 أعوام كما يحدث الآن على الأرض عندما نكون راضين على أحد الموظفين ويمكن أن نصعده على السلم الوظيفي كالبرق بل أسرع... وتخيلوا أن هذا الموظف طوال الثلاثين عاما كان يمشي على السلم الوظيفي كالسلحفاة المريضة، فلم يحصل إلا على ثلاث درجات، فقد وظف على الدرجة الخامسة وحاليا هو على الدرجة السابعة، يعني بحسبة بسيطة نستطيع أن نعرف معدل الترقي الذي خضع له (كل عشر سنوات درجة واحدة)، وهذا بحد ذاته يحتاج إلى نفس طويل، ولكن الواقع يقول شيئا آخر، فالحقيقة أبشع مما نتصور؛ وحسب ما يقول الموظف فقد عمل مدة 7 سنوات على الدرجة الخامسة و19 سنة على الدرجة السادسة و8 سنوات على الدرجة السابعة، علما بأن كل الدرجات لم يحصل عليها بطيب خاطر المسئولين، فقد حصل عليها بعد وصوله إلى مربوط الدرجة وكأن المسئولين «نايمين نومة أهل الكهف».
وهو الآن يطالب بالحصول على الدرجة الثامنة بعد أن بقي على الدرجة السابعة ثماني سنوات ويخشى أن يظل عليها كما ظل على الدرجة الخامسة «عمر 19 سنة» والأعمار بيد الله تعالى والعمر لم يبق منه شيء، في حين أنه - كما يقول - أنه مختلف عن بقية الموظفين والزملاء والذين لا يمتلكون خبرات طويلة كخبراته ولا إخلاصا كإخلاصه، وظلوا ينتقلون من درجة إلى أخرى من دون أن يحتاجوا إلى مطالبات رسمية أو انتظارات أو وعود؛ فالآمال تتحقق فقط لكونهم يمتلكون ما لا يمتلكه هو، وهو صلة القرابة بالوزير أو بأحد المسئولين الكبار في الوزارة وكان عليه أن يبقى مكانه وأن ينسى ما يحلم به ولعل حاله كحال المئات إن لم نقل الألوف من الموظفين الآخرين في الوزارات الأخرى، فهناك آفات ما أشدها ألما على النفس وتحتاج منا تارة إلى صبر وأخرى إلى مطالبة وثالثة إلى مواجهات... «علَّ وعسى».
هل تعرفون... عندما أطلعت على رسالته التي وجهها إلى والوزير، ماذا كان يقول له على رغم شكواه وإحساسه بالظلم والأحقية؟ أحسست حينها بالضجر والحزن، ماذا كان يقول في رسالته؟ «أكتب إليك هذه الرسالة راجيا منك التكرم علي بتعديل درجتي فقد خدمت الوزارة 30 سنة منذ 1978»! تصوروا أنه خدم الوزارة عمرا طويلا (30 عاما بالتمام والكمال) ومع ذلك يضطر حينها إلى كتابة رسالة لوزيره «يرجوه» فيها ترقيته ونقله من درجته إلى درجة أخرى ويستجدي الترقية، وكان من الأولى الحصول عليها من دون المطالبة بها، لولا النظام الإداري المريض والممارسات الإدارية العاثرة، وكلنا يعلم أن «الرجاء لغير الله مذلة».
لقد سجل مذلته في رسالته وأرسلها إلى الجهات المعنية وظلت رسالته التي خطت بيده تنتقل من مسئول إلى آخر في الوزارة فقد كان منسيا قبل كتابة الرسالة ومنسيا مرة أخرى بعد كتابة الرسالة «المقرود مقرود».
الفرصة أمامه للترقي كانت كبيرة جدا ولكونه كان منسيا فقد حرم منها، في حين أعطيت الكثير منها حتى لحراس الأمن ولم تكن الخبرة متوافرة لهم آنذاك وأصبحوا اليوم في مواقع متقدمة في الوزارة وحرم منها، وتوقع أن الفرصة ستأتي إليه من جديد بإخلاصه وتفانيه في عمله ولكن الانتظار طال والأمل بدأ يتلاشى وخصوصا أن المعايير لم تأخذ في الحسبان تلك المميزات التي تميز بها، ولم يبق في العمر بقية فهو اليوم يرغب في الحصول عليها أكثر من أي وقت مضى لتأمين مستقبله التقاعدي لتحسين وضعه المعاشي بعد تقاعده، فهل يصحو المسئولون من نومهم العميق ويعيدوا النظر في أمر هذا المواطن وغيره من الموظفين المنسيين أم عليهم أن يتمادوا في تمييزهم وأن يتجاهلوا الطلبات وكأن الترقيات تأتي من حسابهم الخاص؟
إقرأ أيضا لـ "سكينة العكري"العدد 2218 - الأربعاء 01 أكتوبر 2008م الموافق 30 رمضان 1429هـ