بعد 40 يوماً يتعرف العالم على الرئيس الجديد للولايات المتحدة. وبغض النظر عن الفائز في الانتخابات سيواجه الرئيس المنتخب ملفات ثقيلة تحتاج منه إلى وقت لإعادة ترتيبها في برنامج أولويات.
الملفات كثيرة وهي مختلطة في أنواعها وألوانها، الأمر الذي يشير إلى وجود نوع من الفوضى الإدارية التي أخذت تعصف بالبيت الأبيض منذ شهور. فهناك ملفات داخلية تتصل بالهيكل العام للاقتصاد الأميركي وما تعانيه القطاعات المنتجة من أزمات متتالية.
فالاقتصاد أخذ يتعرض لضغوط مالية ناجمة عن إفلاسات دورية طاولت مؤسسات ومصارف عريقة في تأسيسها وأنشطتها. كذلك تعاني الدولة من تثاقل الديون وتراكمها الأمر الذي وضع الموازنة القومية أمام مشكلات متلونة سواء على مستوى العجز في ميزان المدفوعات التجاري أو على مستوى اضطرار الإدارة إلى رفع درجة الإنفاق على الدفاع (التسلح والحروب) المعطوف على ضخ الأموال في السوق لتسديد عجز الهيئات وتعويمها نقدياً حتى لا تنهار.
إلى ملف الاقتصاد هناك مشكلة الطاقة المزمنة والفشل في التوصل إلى إيجاد حل متوازن بين الاستهلاك الداخلي وتأمين الحاجة من الخارج في وقت يعاني الدولار من ضعف في قدراته الشرائية.
مشكلات الاقتصاد والطاقة والدولار ليست الجانب الوحيد في الأزمة الداخلية. فهناك الكثير من الجوانب الأخرى التي تتعلق بتصحيح الهيكلية وإعادة ترتيب علاقات القطاعات المنتجة ووظائفها في إطار التوازن الهرمي الذي تعتمد عليه الدولة لرفد موازنتها بالأموال. والتصحيح يحتاج إلى وقت لكونه يتطلب إعادة نظر في أولويات الولايات المتحدة واستراتيجيتها الدولية. وإعادة الهيكلة الاقتصادية مشروطة بمدى النجاح في إعادة الهيكلة السياسية وكيف ستتعامل الإدارة المقبلة مع تلك الملفات الثقيلة التي أخذت تضغط على واشنطن وترهق حزينتها بالديون وسمعتها بالبهدلة.
الرئيس الأميركي المنتخب عليه أن يختار بين الاستمرار في سياسة سلفه المنهكة في نفقاتها وبين سياسة تعيد ترتيب الملفات وتنظم الأوراق وفق برنامج أولويات مغاير. وبغض النظر عن خيارات الرئيس الجديد وبدائله لا بد له أن يأخذ وقته حتى يفك ارتباط الحلقات بأقل الخسائر باعتبار أن الخروج الأميركي السريع من خطوط التماس سيدفع القوى الدولية المنافسة إلى التسابق لتعبئة الفراغات الأمنية بالتعاون مع قوى إقليمية صاعدة أو طامحة. وهذا النوع من الخروج المتهالك سيتحول إلى هرولة يرجح أن تتوالد عنه قواعد اشتباك غير منظورة من الآن ولكنها في مجموعها العام ستساهم في تغيير زوايا الصورة.
المشكلات التي تواجه الرئيس الأميركي القادم كثيرة لأنها تضغط زمنياً باتجاه ترتيب أولويات برنامجه. فإذا اختار الرئيس سياسة الانكفاء إلى الداخل لاحتواء أزمات المال والإفلاس والعجز والديون فإنه سيضطر إلى الاصطدام بالقطاعات المنتجة في حال قرر إعادة هيكلة الاقتصاد في سياق مضاد لاستراتيجية الحروب الدائمة والضربات الاستباقية وملاحقة «الإرهاب الدولي».
وإذا اختار الرئيس سياسة متابعة ما تبقى من استراتيجية سلفه فمعنى ذلك أنه سيدفع الاقتصاد باتجاه المزيد من التكيُّف لتأمين نفقات المواجهات الساخنة أو الباردة في القوقاز وآسيا الوسطى و «الشرق الأوسط الكبير».
هناك تركة ثقيلة تواجه الرئيس الأميركي المنتخب مهما كان لونه أو برنامجه الحزبي. فالحزب الفائز في الانتخابات سيخضع في النهاية لحسابات المصالح. وتوازن المصالح تقرره سياسة الدولة العليا التي تتبع في سلوكياتها شروط القطاعات المنتجة وطموحاتها وتنافسها للاحتفاظ بموقع الأولوية. فالحروب تتطلب رفع موازنة الدفاع وإعطاء مؤسسات التصنيع الحربي مركز القيادة في الهيكل الهرمي الاقتصادي. والاتجاه نحو التفاوض والمساومة يتطلب إعادة نظر في أولويات الإنفاق اعتماداً على قطاعات بديلة تحفظ التوازن وتمنع الافلاسات أو الانهيار العام.
وبهذا المعنى الاقتصادي - المصلحي تبدو مهمة الرئيس المنتخب صعبة أو على الأقل تحتاج إلى فترة زمنية حتى ينجح في عملية تفكيك الحلقات وإعادة ربطها في سلسلة أولويات مختلفة عن السابق.
الاستراتيجية الدولية لا يمكن عزلها عن السياسة الداخلية التي تقررها مجموعة مصالح تتحكم في إدارتها لوبيات (مافيات) تتمتع بمواقع مهمة في السلطة التشريعية (الكونغرس) تستطيع أن تعرقل أو تؤخر أي قرار يعكس وجهة نظر مخالفة للمؤسسات التي يفترض أنها تمثلها أو تدافع عنها في نقاشات النواب والشيوخ. لذلك على الرئيس المنتخب أن يحدد خياراته العامة حتى يكتسب الوقت ويسارع إلى كسب المعركة الداخلية. وخيارات الرئيس ليست مفتوحة على كل الاحتمالات حتى لو تمتع بصلاحيات مطلقة. فالرئيس في المحصلة يستطيع أن يغير مواقفه وأفكاره وخطاباته ولكنه لا يستطيع أن يستبدل مراكز القوى بسهولة ومن دون مواجهات داخلية لكون تلك المراكز تشكل مفاتيح (رموز) لمؤسسات وشركات وهيئات تعتمد عليها الدولة لتأمين مواردها المالية.
التغيير يحتاج إلى وقت وهذه مهمة صعبة ستواجه الرئيس المنتخب باعتباره يرث إدارة تعثرت في خطواتها ما أدى إلى توليد ملفات ومراكمتها من دون حل. ومثل هذه الفوضى السياسية في إدارة الملفات تحتاج إلى سلطة تتمتع برؤية استراتيجية قادرة على ترتيب الأولويات وفك ارتباط الحلقات حتى لا تنعكس تأثيراتها سلباً على برنامج الولايات المتحدة الدولي.
الرئيس المنتخب عليه أن يختار ويقرر الملف الذي يحتل أولوية في سياسته الخارجية. فهل الأولوية لنشر «الدرع الصاروخي» في تشيخيا وبولندا واستفزاز روسيا في عقر دارها من جورجيا إلى بيلاروسيا والبلقان أم الأولوية للطاقة والملف النووي الإيراني؟ وهل الأولوية لترتيب الانسحاب من العراق في إطار التفاهم مع حكومة بغداد وتوقيع اتفاق أمني واضح في خطوطه العامة وجداوله الزمنية أم لنقل القوات إلى أفغانستان والبدء في جولة عنف (مكافحة الإرهاب) أخذت تمتد وتنتشر إلى حدود باكستان وداخلها؟ وهل الأولوية لتأمين معابر الطاقة ومنافذها وخطوطها وأنابيبها أم لضمان أمن «إسرائيل» وحمايتها بالمطلق من دون محاولة لإعادة قراءة الملف في ضوء التطورات والتحولات؟
كل هذه الأولويات اختلط ترتيبها في السنة الأخيرة من عهد بوش حين انخرطت الإدارة في سلسلة من الحلقات دفعة واحدة من دون أن تنجح في حل أزمة واحدة. وهذا النوع من التهرب من ملف إلى آخر ثم العودة إلى الملف ومغادرته إلى آخر ثم العودة مجدداً أورث الإدارة مجموعة أوراق ساخنة ساهمت في إرباكها ورفعت من درجات فشلها. وزاد طين البيت الأبيض بلة كثرة التنقلات من مكان إلى آخر من دون أن يساهم الانتقال من ملف إلى آخر في حلحلة الأزمات. وأحياناً كانت الإدارة تفتح ملفات جديدة قبل أن تتوصل إلى إقفال ملفات قديمة ما أدى إلى مراكمة المشكلات وتوسيع دائرة الخصوم وإعطاء ذرائع للقوى المترددة حتى تحسم خياراتها بالضد من المصالح الأميركية.
فتح الملفات واحداً بعد آخر ساهم في فتح مسارات ضد واشنطن دفعة واحدة. وهذه السياسة المرتبكة في تحديد الأولويات تتحمل مسئوليات نتائجها إدارة بوش وسترثها الإدارة الجديدة المتوقع أن تتبلور تشكيلتها بعد الانتخابات الرئاسية. فالرئيس الجديد عليه أن يحدد الملف الأول في برنامجه ثم الثاني والثالث وصولاً إلى الأخير في أولوياته حتى يعيد النظر في سياسة الخلط في برنامج الأولويات الذي انزلقت إليه الإدارة الحالية. فهذه الإدارة وضعت ملف العراق أولاً والبرنامج النووي ثانياً ومشروع الدولتين في فلسطين ثالثاً ولكنها فشلت في الملفات الثلاثة لأنها توجهت إلى القوقاز (جورجيا) لتفتح معركة جانبية قبل أن تنتهي من معالجة مشكلة البلقان (كوسوفو) ثم انتقلت إلى بولندا وتشيخيا (درع الصواريخ) وبعدها أخذت ترمي بثقلها العسكري في أفغانستان فدفعت بتحالفاتها في باكستان إلى الانهيار والآن تبدو حكومة إسلام آباد مهددة بالسقوط.
توسيع المعارك والجبهات وفتح الملفات من دون إقفال أخرى وضع الإدارة الأميركية في مأزق استراتيجي لكونها ساهمت في تعطيل إمكانات التوصل إلى حل واحد لمشكلة من المشكلات.
واشنطن الآن غير قادرة على حمل كل الأوراق ودمجها في سياسة واحدة. فهي مثلاً إذا أرادت التوصل إلى معالجة مشكلة الملف النووي الإيراني تحتاج إلى مساعدة روسية - صينية. وروسيا والصين متضامنتان في موضوع القوقاز (جورجيا) الذي فتحت واشنطن ملفه قبل أن تتوصل إلى تفاهم مع موسكو وبكين بشأن طهران. وشكلت هذه الإضافة مشكلة لوجستية يمكن أن تعطل على البيت الأبيض إمكان توقيع الاتفاق الأمني مع بغداد. والفشل في العراق يرجح أن يشجع على نمو الاعتراض على الوجود العسكري في أفغانستان وجوارها. والأمر نفسه يمكن سحبه على ملف التفاوض مع السلطة الفلسطينية حين وصل إلى طريق مسدود بسبب تعدد مسارات تل أبيب التفاوضية مع دمشق و «حماس» في غزة بتغطية من واشنطن.
اختيار الأولويات سيشكل مشكلة للإدارة الجديدة وعلى الرئيس المنتخب أن يبدأ خطواته في تصحيح تعدد المسارات وبرمجة الملفات وتحديد حلقات السلسلة. ومثل هذه الأوراق الثقيلة تحتاج إلى وقت للسيطرة عليها.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2210 - الثلثاء 23 سبتمبر 2008م الموافق 22 رمضان 1429هـ