العدد 2204 - الأربعاء 17 سبتمبر 2008م الموافق 16 رمضان 1429هـ

أزمة لبنان... واستراتيجية الدفاع

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

اتفق المجتمعون في «القصر الجمهوري» على تأجيل جلسة الحوار اللبناني الثانية إلى 5 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، أي بعد يوم من عملية الاقتراع لانتخاب رئيس جديد للولايات المتحدة. واختيار الموعد قد يكون مصادفة ولكنه يشير من بعيد إلى وجود قناعات لدى فرقاء الحوار بأن حل الأزمة اللبنانية ينتظر معطيات دولية وإقليمية لابد من اتضاح معالمها حتى يمكن الدخول في تسوية تتجاوز حدود الكيان الصغير. فالأزمة التي يعيشها لبنان تتألف موضوعيا من عناصر مركبة بعضها داخلي يتصل بطائفية نظام أضعف قيام دولة قوية وقادرة على احتواء مشكلات بلاد الأرز، وبعضها خارجي يتصل بملفات المنطقة الساخنة (احتلال العراق، الاستيلاء على فلسطين والجولان والقدس، والملف النووي الإيراني).

الأزمة اللبنانية مفتوحة وستبقى مكشوفة على المتغيرات الدولية والإقليمية ولن تستقر على تسوية قبل معرفة المتحولات الجاري إعدادها مداورة أو مباشرة. والأطراف المعنية باتت على علم واطلاع على أن الحل النهائي مستحيل في الفترة المتبقية من عهد الرئيس جورج بوش وهي مضطرة للانتظار حتى تتوضح صورة المعادلة السياسية التي ستتوصل إليها الولايات المتحدة و «إسرائيل» بعد الانتخابات في البلدين.

الحل النهائي يبدو من الطموحات الصعبة لذلك تتجه القوى المحلية نحو صيغ توفيقية تضمن عدم انهيار الأوضاع وانجرار الطوائف والمذاهب والمناطق إلى حروب صغيرة تتمظهر في فتنة متنقلة من الشمال إلى الجنوب ومن البقاع إلى الجبل وبيروت. فالطموح اللبناني يتمثل الآن في مدى قدرة الأطراف على وقف تدهور الأزمة ومحاصرة تلك الفتنة التي تتنقل بين المخيمات (نهر البارد وعين الحلوة) والمدن (بيروت وطرابلس) والجبل والبقاع (سعد نايل وتعلبايا) والشمال (الكورة وزغرتا والبترون وعكار).

كل يوم في لبنان هناك مشكلة أمنية أو حادث تفجير أو جريمة اغتيال أو مواجهة مسلحة. وأدت تلك الاشتباكات اليومية إلى رسم حدود تماس سياسية بين الطوائف والمذاهب والمناطق وهي تستمر في حفر المزيد من الخنادق حتى داخل الاقضية التي تتشكل من طائفة أو مذهب واحد. ومثل هذا التداعي اليومي يتطلب فعلا تفاهمات تطمح إلى وقف التدهور الذي أوقع ضحايا فاقت في أعدادها مجموع ما سقط من شهداء وجرحى في عدوان صيف 2006. فالعدوان الأميركي - الإسرائيلي أوقع 1280 شهيدا و4 آلاف جريح ونحو 400 معوَّق بينما الفتنة المتنقلة التي بدأت تتدحرج بقوة بعد توقف الحرب فإنها أحدثت خسائر بشرية أعلى من تلك الأرقام التي أعلن عنها بعد العدوان.

الفتنة كارثة حقيقية وخصوصا من الناحيتين السياسية والنفسية لأنها تؤسس عداوات قاتلة ومتنقلة من دون أن تتوصل الأطراف إلى تحديد الجهة أو الجهات المسئولة عن افتعالها. فكل الحوادث التي وقعت رُفعت إلى القضاء للتحقيق بشأنها وتعيين الطرف الذي يقف خلفها، وحتى الآن لم تتوصل الجهات الأمنية والقضائية إلى تقديم مطالعة قانونية تؤكد أو تنفي تلك المعلومات والاتهامات الشفهية التي تتداولها الشوارع اللبنانية.

عدم قدرة الأجهزة الأمنية والقضائية على التوصل إلى رسم خريطة طريق تشير إلى عنوان المجرم أو المجرمين رفع من نسبة قلق المواطن العادي وفتح باب التأويل والتخمين والافتراض. وهذا الأمر زاد من درجة التوتر الأمني وأعطى فرصة للفتنة بأن تستكمل دورتها الجغرافية لتقض مضاجع كل الفرقاء ومن مختلف المناطق والطوائف.

مشهد متمزق

المشهد اللبناني بات الآن في حال يرثى لها لكون مختلف القوى تتهم بعضها أو ترمي المسئولية على جهات خارجية (إقليمية وجوارية وأجنبية) بينما الضحايا التي تسقط يوميا تنتمي إلى طوائف لبنانية أو فصائل فلسطينية. وبهذا المعنى تبدو صورة المشهد مؤلمة لأنها من جانب تحفر في العمق النفسي ومن جانب آخر تسدل الستار السياسي على القوى المستفيدة وصاحبة المصلحة في إبقاء بلاد الأرز على نار حامية.

لا شك في أن هذا المشهد المؤذي يحتاج إلى قراءة للتعرف إلى طبيعة الصراع الداخلي وصلته بالمحيط الجغرافي (الجواري) وارتباطه بالضعف اللبناني وعدم قدرة البلد الصغير على تحمل نتائج المواجهة الكبرى مع «إسرائيل» ومشروع الولايات المتحدة التقويضي. فالصراع الداخلي غير معزول جغرافيا وعضويا عن المحيط وملفاته الساخنة التي تتطلب مواجهة دائمة لإبقاء خطوط التوتر جاهزة للانفجار حين تقترب اللحظة. وهذا النوع من الصراع الكبير بدأ باجتياح البلد الصغير منذ عقود حين تقرر اعتماد ساحته منطقة مفتوحة لتوجيه الرسائل واختبار الأسلحة وفحص المزاج العربي العام. وأدى الاختيار المذكور إلى تشكيل احتياطات بشرية تقوم بلعب دور محلي بالنيابة عن الأقاليم ما أدى إلى خلخلة التوازن الأهلي ودفع الطوائف والمذاهب إلى صدامات مسلحة لا وظيفة لبنانية لها وإنما تنتج عينات للاختبار تحتاجها القوى للتعرف على نوعيتها وجودتها.

مشكلة لبنان تتجاوز الحدود وهي محكومة بمجموعة شروط دولية وإقليمية لا يمكن حصرها في موضوع واحد وتحت عنوان «الاستراتيجية الدفاعية». فهذا العنوان مهم التفاهم بشأنه ولكنه لا يختصر المشكلة ولا يمكنه أن يختزلها ما دامت الملفات الأخرى ساخنة ولم تتوصل القوى الكبرى إلى احتواء عناصرها التفجيرية. هناك مشكلة الاحتلال الأميركي للعراق ومصيره في السنوات المقبلة. وهناك مشكلة فلسطين واحتمالات عودة أو توطين الفلسطينيين في دول الجوار. وهناك مشكلة الملف النووي في إيران وحدود التفاهم الذي يمكن أن تتوصل إليه طهران في حوارها مع واشنطن. فهذه المشكلات الثلاث موصولة مباشرة بتفرعات الأزمة اللبنانية، مضافا إليها مجموعة مشكلات أخرى تتصل بالوجود الفلسطيني ومستقبله في لبنان، وموضوع احتلال الجولان وتعطل احتمالات الانسحاب وانعكاسه على أمن بلاد الأرز وإمكانات عودة «إسرائيل» إلى تكرار العدوان وتحطيم البنية التحتية للدولة بذريعة إبعاد المخاطر المتأتية من صواريخ حزب الله.

كل هذه المشكلات الكبيرة والصغيرة مترابطة عموديا وأفقيا وهي في مجموعها تعطل إمكانات التفاهم على حل نهائي لموضوع السلاح و «استراتيجية الدفاع». فالتفاهم اللبناني يطمح إلى معالجة جزئية في مشروع دولي وإقليمي عام ينبسط على مساحات واسعة ويمتد جغرافيا من باكستان وأفغانستان إلى فلسطين والسودان. حتى لو توصل المجتمعون في «القصر الجمهوري» إلى مشروع حل مؤقت لمسألة «استراتيجية الدفاع» في 5 نوفمبر المقبل ستبقى عناصر المشكلة حية وتمتلك حيوية للانفجار في لحظات قد تشهد خلالها الأقاليم انعطافات دولية جيوبولتيكية. فالاستراتيجية التي يطمح الفرقاء إلى معالجتها لبنانية بينما حدود المشكلة متفرعة وتتجاوز حدود الكيان. واحتواء الجزء يساعد مؤقتا على ضبط الفتنة المتنقلة ولكنه في الجوهر العام لن ينجح في الغاء عناصر الانفجار لكون الصواعق موصولة بأجهزة تحكم عن بعد موجودة في مناطق المحيط الجواري والجغرافي.

أزمة لبنان دائرية وهي تعكس نفسها ميدانيا بذاك المشهد الذي تتمظهر صوره الدموية يوميا بتلك الفتنة المتنقلة من مكان إلى آخر. وهذا النوع من الأزمات المعقدة والمركبة والممتدة يحتاج إلى استراتيجية دفاع موسعة تتجاوز حدود بلاد الأرز حتى يمكن ضبطها نسبيا والتعامل معها في إطار عام يتناسب مع المشروع الكبير الذي رمى بثقله على كيان صغير غير قادر على تحمل أوزان دول قررت اعتماد الهدنة على حدودها ومن ثم التفاوض بشأنها في أمكنة أخرى.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2204 - الأربعاء 17 سبتمبر 2008م الموافق 16 رمضان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً