إذا عقدنا مقارنة سريعة بين الثورة الإيرانية التي قادها الإمام الخميني والانقلاب العسكري في أفغانستان بقيادة حزب خلق (بارشام) في العقد الثامن من القرن الماضي نكتشف أن هناك خطين متعاكسين في التعاطي مع القضايا والمشكلات المطروحة في البلدين. الثورة الايرانية ضربت لحظة انتصارها الشعبي الكاسح السلسلة في حلقتها القوية، فانفرط عقد باقي الحلقات بعد انهيار السلطة المركزية (الشاه). وحاولت الثورة الإسلامية انذاك إيجاد الحلول للمشكلات الموروثة في الأصل عن النظام السابق، وفق القوانين الخاصة بها التي تسود وتحكم بلدا مركزيا من بلدان العالم الثالث.
أما الانقلاب الأفغاني فقد وصل إلى السلطة بواسطة الجيش وأمسك بزمام الحلقة القوية (العاصمة والمدن) محاولا التقاط حلقات السلسلة الأخرى، التي تلتف حول عنق الحلقة المركزية من دون أن ينجح في ذلك بسبب ابتعاده عن القوانين الخاصة، التي تسود وتحكم بلدا هامشيا (أفغانستان) من البلدان المتخلفة في العالم.
لكن إذا نظرنا مليا إلى النموذجين، نرى أنهما في النهاية يطرحان الإشكالية عينها، ويلتقيان في نقاط تاريخية ومتقاطعة يجب فك رموزها لتسهيل عملية الخروج من «الصدمات الكهربائية»، التي أحدثتها التيارات الدينية في عقل الفئات والأحزاب العصرية. وإذا قمنا بقراءة سريعة للحوادث يتبين لنا من الحالتين المتفجرتين (إيران وأفغانستان) أن تطور الرأسمالية في البلدين عجز عن توحيدهما داخليا، بل ساهم في تفكيكهما في إطار دولة عصرية مركزية حديثة التكوين.
الدولة الشاهنشاهية عمّت البلاد تحت سلطة قبضة حديد، أما الدولة الأفغانية المعاصرة فقد اقتصر نفوذها على العاصمة وبعض المدن والحواشي بينما بقيت القوى الاجتماعية الأساسية خارج نفوذها أي خارج عصر الحداثة. فسلطة الشاه المركزية بقيت سلطة فوقية «برانية» تحاول جهدها الإمساك ببلد تسود فيه قوى اجتماعية لم تخترقها الرأسمالية، وسلطة كابول المركزية (قبل انقلاب نور محمد طرقي وبعده) اقتصرت سيطرتها على العاصمة وبعض الحواشي واستمرت البلاد خارجة على قوانين التطور الرأسمالي ومستعصية عليها.
هكذا عندما انتصر الإمام الخميني في معركة الشعب ضد الشاه، بانت إيران على حقيقتها وظهر للعالم أن الشاه كان قوة فوقية «برانية» يستمد سلطته من التوازنات الدولية الخارجية، بينما كانت مختلف الفئات الشعبية منكمشة إلى الداخل كوحدات اجتماعية - دينية في إطار قوانينها الخاصة. هذه القوانين عجزت الإمبريالية والمحاولات العصرية والتحديثية كافة عن اختراقها أو كسر حدتها إلا بحدود نسبية. وكانت عمليات الترويض المختلفة التي افتعلها الشاه كافية لتوليد مقاومة وتفجير مد جماهيري عريض استطاع أن يسقط الشاهنشاه و»إصلاحاته» الخضراء والبيضاء الفوقية و «البرانية».
على موازاة ذلك عندما وصل طرقي إلى الحكم بواسطة انقلاب عسكري حاول أن يمد سلطته إلى مختلف الأراضي الأفغانية بطرح برامج ومشروعات إصلاحية تحديثية. وما أن باشر طرقي في تطبيق أفكاره على أرض الواقع، حتى قامت ضده ثورة انطلقت من تلك القوى المنعزلة والمنكفئة على ذاتها، التي ما أن مسها «دبوس» الإصلاحات العصرية حتى انفجر من داخلها ذلك الخزان المملوء بالعنف والراكد في باطنها منذ سنوات طويلة.
في ضوء هذه المقدمة نستطيع أن نطرح الأسئلة:
أولا، أليس هناك قوانين خاصة تحكم هذه الجماعات أو المجموعات البشرية التي عجزت كل الأساليب والمستحضرات الأجنبية والغربية عن اختراقها إلا بحدود ضيقة ونسبية سهلت في ما بعد الإطاحة بالسلطات المركزية كافة؟
ثانيا، أليس هناك من ضرورة لفهم خصائص هذه الجماعات كمحاولة لاكتشاف القوانين التاريخية والواقعية، التي أعطت هذه القوى مناعة عجزت عن اختراقها كل البرامج والمشروعات «الإصلاحية»؟
ثالثا، ألا تطرح مثل هذه المشكلات تحديات جدّية على الفكر العربي الحديث وبعض المفاهيم الماركسية الكلاسيكية، التي تعلمناها في الكتب وفي ضوء تجارب غيرنا، فاكتشفنا بعد فترة أن قوانيننا مغايرة للقوانين الجامدة والجاهزة في عقولنا؟
رابعا، هل من المعقول أن الأدوات المعرفية الخالصة، التي يستعملها البعض بطريقة جاهزة ويطبقها بصورة ميكانيكية على أي ظرف وفي أي مكان من دون محاولة معرفة المفاهيم - القوانين السائدة في مجتمعاتنا، تصلح أن تكون مرشدا للعمل والنضال؟
بكلمة أخرى هل هذه الأدوات المعرفية العامة صالحة لفهم مجتمعاتنا أو على الأقل كافية لاستيعاب مجموع المشكلات المتعلقة بتركيبتنا وتاريخنا وقوانيننا الخاصة؟
إذا عقدنا مقارنة ثانية بين ما حصل ويحصل اليوم في إيران وأفغانستان وبين الذي يحصل الآن في المنطقة العربية نكتشف أن هناك الكثير من الحالات المشابهة لبعضها بعضا. فالتطور الرأسمالي، الذي حصل في المنطقة العربية منذ ما يزيد على القرن لم يساعد على تحقيق الوحدة العربية، بل أدى إلى المزيد من التفكك في عناصر توحيد الأمة والمزيد من التجزئة، وبالتالي المزيد من التبعية لشبكة العلاقات الغربية (العولمة).
وإذا نظرنا الآن إلى وضع المنطقة العربية نلمس المقابلة التالية، التي تكشف عن تعارض تاريخي، وهي: أنه كلما نمت الرأسمالية وتقدمت وبسطت نفوذها يقابلها المزيد من التدهور الاجتماعي والمزيد من التفكك في كل قطر وبالتالي المزيد من التجزئة. هذا الوضع الممزق في المنطقة العربية يؤكد أن الصراع الأساسي يقع فيها خارج الإطارات الاجتماعية الحديثة، التي تتحدث عنها النظريات الغربية، كذلك أن هذا الوضع يؤكد أن عملية إعادة توحيد الأمة ستتم خارج الإطار والقوانين والأدوات التي تفترضها أو تتوقعها النظريات الأوروبية.
نستطيع ضمن هذا التصور العام، أن نفسر لماذا يقع الصراع الراهن خارج دائرة القوانين الرأسمالية وضد قاعدة الفرز الحديث، الذي أنشأته الدول العصرية خلال السنوات الماضية؟ كما نستطيع أن نفهم لماذا الصراع القائم ليس ضمن القوانين الرأسمالية الحديثة بل ضد هذه القوانين...؟ أي أن الكتل الشعبية بدل أن تنقسم على بعضها توحدت مع بعضها على قاعدة العصبية الدينية أو العشائرية والمناطقية والاقوامية وأخذت بشن الحرب ضد التمدد الحداثي.
من هنا ليس غريبا ما نشاهده أحيانا من صراعات عنيفة ودموية في هذا القطر العربي أو ذاك حين أخذت الصراعات اتجاها عموديا وليس أفقيا (طبقيا - اقتصاديا). والقوانين التي تحكم هذه الصراعات مغايرة في آلياتها و ليست مدرجة على جدول أعمال النظريات الكلاسيكية، التي اطلعنا عليها في الكتب الغربية.
في ضوء هذه الإشكاليات نعتقد أن هناك بعض الأسئلة المشروعة التي يحق أن نطرحها:
أولا: أليس هناك من تفسير خاص يحدد أسباب انفجار الصراعات السياسية خارج العلاقات الاجتماعية الحديثة التكوين، واتخاذها أشكالا ومضامين مغايرة للنظريات الحديثة، التي هي في الأساس نتاج معرفي لتطور المجتمعات الأوروبية؟
ثانيا، أليس هناك قوانين خاصة تتحكم بالقوى، التي تعرضت لمحاولات الاختراق الرأسمالية وعجزت عن السيطرة عليها، فانكفأت على نفسها إلى خارج الدائرة الرأسمالية، ثم شنت عليها حربا على أرضية لا تتحكم فيها القوانين الحديثة، ولا تسير وفق مناهج النظريات الغربية التي فشلت في تفسير حركتها المضادة؟
ثالثا، ألا تؤكد هذا الوقائع استنادا إلى التجربتين / النموذجين (الإيراني والأفغاني) أن الأحزاب والمنظمات العصرية والعلمانية والدول الحديثة، قدمت لنا تجربة غنية في الفشل من ناحية التعاطي مع القوى المسورة بدائرة التقليد، والممتنعة عن الانخراط في دائرة الحداثة الرأسمالية، خصوصا بعد أن أخذنا نقرأ اليوم عناوين العجز الفاضح عند الأحزاب، سواء في القيام بالمهمات التحررية المطلوبة، أو من ناحية الاحتفاظ بوحدة القطر نفسه؟
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2163 - الخميس 07 أغسطس 2008م الموافق 04 شعبان 1429هـ