العدد 2157 - الجمعة 01 أغسطس 2008م الموافق 28 رجب 1429هـ

كابوس 2 أغسطس 1990

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

العودة إلى 2 أغسطس/ آب 1990 ستبقى ضرورة دائمة لإعادة إنعاش الذاكرة بقصد بناء قراءة تحاول أن تستفيد من تجربة كان لها أثرها في تغيير هيئة «الشرق الأوسط الجديد». آنذاك استفاق العالم على خبر عاجل أوردته الوكالات: الجيش العراقي اقتحم الكويت وأعلنها محافظة عراقية.

هذا الخبر الصغير هز المنطقة العربية - الإسلامية ووضع دولها في مواجهة استحقاقات خطيرة. وأدى الخبر إلى تشكيل قراءات تعارضت في تحليل الواقعة وانتهت إلى استنتاجات متباينة.

التحليل السخيف انطلق من فكرة أن صدام حسين تعرض ليلا لحلم بشع واستفاق على كابوس أملى عليه اتخاذ هذا القرار المخيف. تحليلات أخرى قرأت الخطوة بأنها محاولة للدفاع اعتمادا على نظرية «حماية القلعة من خارج أسوارها». ورأت تحليلات موازية أن صدام اتبع سياسة «الهجوم خير وسيلة للدفاع» أي أنه اتخذ خطوة الهجوم بهدف المساومة عليها وحماية القلعة من الاقتحام. وهكذا استمرت القراءات تتضارب من دون انتباه إلى أن خطوة صدام لا يمكن أن تكون نتاج لحظتها.

فاللحظة النوعية تكون عادة نتاج تراكمات زمنية تؤدي إلى ترسيم وجهة نظر متراصة يصعب تذليلها أو تعديلها. وحين تتحول وجهة النظر إلى قناعات ذهنية راسخة تصبح في عقل الإنسان من الثوابت الايديولوجية التي تخلط بين الوقائع والأوهام وتنتهي في الشوط الأخير إلى نوع من التزوير للحقائق.

قرار صدام آنذاك كان محصلة عوامل ذاتية وموضوعية اجتمعت كلها دفعة واحدة ودخلت في مسار موحد لتنتهي في مصب مشترك لا يستطيع الخروج منه إلا بالذهاب بعيدا نحو كسر السور واقتحام الجوار بذريعة حماية الداخل من الانهيار.

تداخل العوامل الذاتية بالموضوعية أنتج عند صدام معادلة ذهنية تحولت تباعا إلى قناعة راسخة لا تقبل النقاش أو الحوار أو التفاوض. القناعة هذه لم تتكون في يوم واحد وتتشكل ليلا في كابوس. فهي جاءت بناء على قراءات خاطئة وحسابات ناقصة مدفوعة بالإحساس بالقوة وامتلاك خصائص تفوقية تعطيه المجال للنمو في الداخل والتقدم إلى الخارج.

الثقة بالنفس المؤسَّسة على قناعة العظمة والقوة التي لا تقهر بدأت بالتكون في ذهنية صدام منذ توقف الحرب العراقية - الإيرانية بناء على قرار دولي صدر عن مجلس الأمن. وأدى وقف إطلاق النار في العام 1988 إلى توليد حرارة شخصية تتجاوب ذاتيا مع ملامح سلطة تأسست على الغلبة.

خروج العراق من الحرب غير مهزوم رسخ قناعات سياسية تأسست على قراءات خاطئة وحسابات ناقصة. فصدام اعتبر النتيجة من صناعته وبالتالي فإن ما حصل لا صلة له بالمحيط والخارج. وأدت هذه النظرية إلى ترسيخ الإحساس بالقوة والتفوق وبدأ صدام يفكر بأسلوب يتجاوز إمكانات العراق وطاقاته باعتبار أنه أنجز مهمة خارقة ويستطيع انطلاقا منها استكمال رسالته «الخالدة» من المحيط إلى الخليج من دون رادع.

هذه القناعة الذاتية تطورت موضوعيا بين عامي 1988 و1990 وتعززت حين بدأ الاتحاد السوفياتي يدخل في طور التفكك والانهيار وسط انشغال العالم بتحليل الاحتمالات المتوقع حصولها بعد سقوطه. انشغال الولايات المتحدة وأوروبا الغربية بالتحولات الجارية في أوروبا الشرقية (دول حلف وارسو) رفع من درجة حرارة الإحساس بالقوة وزاد فاعلية القناعة الذاتية بالتفوق والعظمة. وترافقت تلك الاضطرابات مع معلومات وتقارير تتحدث عن مخاوف أميركية - أوروبية من نتائج الانهيار السريع للاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي باعتبار أن الغرب غير مستعد ثقافيا واقتصاديا وعمرانيا وبشريا لتحمل مهمات تتطلب فترة طويلة للتعامل معها واحتواء عناصرها التفجيرية.

دخان وبخار وخداع

على خط موازٍ أخذت الصحافة الأوروبية والأميركية تسرب معلومات «دخانية» تتحدث عن قوة العراق العظمى وقدراته العسكرية الهائلة التي تهدد المحيط والعالم. وربط الإعلام الغربي آنذاك بين المترتبات التي يمكن دفعها في حال انهار المعسكر الشرقي وبين نمو قوة العراق العظمى ودوره الجديد في المعادلة الدولية.

الكلام «البخاري» عن ضعف الغرب وعدم جاهزيته لاستقبال الانهيار السوفياتي - الاشتراكي المعطوف على تقارير «دامغة» بأن العراق الطموح قد يشكل البديل الإقليمي لتعبئة الفراغات الدولية التي قد تنشأ مع انهيار المعسكر الشرقي زاد من قناعات صدام الراسخة بأنه يستطيع أن يلعب دوره الخاص ويحقق أحلامه ورغباته في وقت يشهد العالم تحولات سريعة تعطل إمكانات الولايات المتحدة وتمنع عليها التدخل بسبب انشغالها بالانقلاب الدولي الذي أخذت تشهده على المسرح الأوروبي.

كابوس 2 أغسطس 1990 لم يكن نتاج لحظته أو تولد في ليلة حلم مزعجة وإنما تشكل رويدا وتأسس بناء على قناعات تراكمت ذهنيا في فترة زمنية تجاوزت مدى السنتين. فالإحساس بالقوة والتفوق ترسخ على أساس معلومات غربية أخذت تبالغ بقدرات العراق العسكرية وإمكاناته الهائلة التي لا تستطيع القوى العظمى مواجهتها أو حتى وضع حد لطموحاته الإقليمية والدولية. وبسبب هذه القراءات الخاطئة والحسابات الناقصة كان من الصعب على الدول العربية والإسلامية ودول العالم (فرنسا تحديدا) إقناع صدام بإعادة النظر في خطوته والتراجع عنها. فالرئيس المهيب آنذاك انخدع بقوته. وبحسب معلومات نقلتها عنه الكثير من الأطراف التي نجحت أن تتصل به كان في أجواء محلقة في السماء ولا يمكن إقناعه بأن الولايات المتحدة تستعد لتوجيه ضربة للعراق تقوّض بسببها المنطقة كلّها.

الرئيس المهيب كان على قناعة راسخة وغير قابلة للنقاش أو التفاوض بأن أميركا ضعيفة وغير قادرة على خوض حرب وهي في حال قررت ارتكاب مثل هذا الخطأ فإنه يمتلك قدرات هائلة يستطيع هزمها عسكريا.

القراءات الخاطئة والحسابات الناقصة التي تراكمت ذاتيا وموضوعيا منذ العام 1988 إلى أغسطس 1990 أوصلت الرئيس العراقي إلى قناعة راسخة اعتمدت على نظرتين: الأولى أن أميركا منشغلة بانهيار المعسكر الاشتراكي وهي غير جاهزة للتفريط بقوتها ودفعها نحو منطقة لا تحتل تلك الأهمية في استراتيجيتها الدولية. والثانية أن الولايات المتحدة في حال ارتكبت ذاك الخطأ وقررت خوض معركة فإن العراق سينتصر فيها وهذه فرصة تاريخية للعرب لتحقيق حلم الوحدة والاستقلال والسيادة والحرية.

الإحساس بالقوة والعظمة المعطوف على معلومات خاطئة بأن العراق يملك «الجيش الرابع» في العالم وقدرات عسكرية لا تقهر دفعت صدام إلى اقتحام الكويت بناء على قراءات وحسابات استندت إلى تقارير كاذبة جعلته يعتقد أن أميركا تهدد بالحرب ولكنها لن ترتكبها... وإذا فعلتها فإن هذه الخطوة ستكون بداية نهاية الولايات المتحدة. وبسبب هذه القناعة الراسخة رفض صدام كل دعوات الانسحاب من الكويت.

آنذاك كتبت صحيفة «صنداي تايمز» الأسبوعية البريطانية سلسلة تقارير نشرت على أسابيع أشارت فيها بناء على معلومات استخبارية إلى ثلاث نقاط مهمة وخطيرة وهي: أولا إن إدارة جورج بوش (الأب) تتخوف من احتمال انسحاب صدام من الكويت وهذا السيناريو - إذا حصل - سيكون الأسوأ للولايات المتحدة؛ لأنه سيفوّت لحظة تاريخية لن تتكرر وهي إعطاء فرصة للتدخل العسكري المباشر في أغنى منطقة في العالم.

ثانيا، إن الحرب ستقع وسيحطم العراق وإن هيئة «الشرق الأوسط» تغيرت عمليا ولن تكون كما كانت عليه قبل 2 أغسطس حتى لو انسحب صدام ولم تقع الحرب.

ثالثا، إن الجيش العراقي يعاني من مشكلات بنيوية وضعف لوجستي ولا يستطيع مواجهة هذا الحشد الهائل من القوات المتطورة والمتفوقة برا وبحرا وجوا. وفي حال وقعت الحرب فإن العراق سيدمر ويقوض ولن تتجاوز خسائر الولايات المتحدة مئة قتيل.

رفض صدام الانسحاب ووقعت الحرب ودمر «الجيش الرابع الذي لا يقهر» وتحطمت قواعد الاقتصاد العراقي وتقوّضت بناه التحتية وانسحب من الكويت عَنوة واندلعت مواجهات داخلية أودت بحياة الآلاف واضطر الرئيس المهيب إلى توقيع اتفاقات «خيمة صفوان» المذلة... وانتهت المواجهة إلى طور متقدم في سياسة تعديل هيئة «الشرق الأوسط» والبدء في محاصرة العراق.

بعد وقوع الكارثة التي تمظهرت ميدانيا حين أعلن وقف العدوان (إطلاق النار)، خرج صدام بصوته الجهوري ليقول للعالم بقناعة راسخة إن العراق انتصر وهزمت الولايات المتحدة في «أم المعارك».

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2157 - الجمعة 01 أغسطس 2008م الموافق 28 رجب 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً