ليس غريبا وناشزا عن النائب الفاضل من كتلة «الأصالة» البرلمانية غانم البوعينين أثناء مقابلة له مع إحدى الصحف المحلية أن يتوقع هيمنة التيارات «الإسلامية» في برلمان 2010، وأن يعلن بذلك استعداد «الأصالة» لها وبدء تحديد مسار الجدار العازل، ما يوحي بالعزم القوي في الظفر بأكبر قطعة ممكنة من الكعكة الانتخابية فذلك في النهاية من حق البوعينين ورفاقه، كما أنه ليس بجديد أن يعلل ذلك التفاؤل «السلفي» من قبل البوعينين بأن الناس سئمت التنظير السياسي للتيارات اليسارية، فاليساريون - بحسب وجهة نظره - من دون عمل، ولكن أخانا أغفل ذكر تجارب نواب الكتل الإسلامية بالبرلمان التي على العكس كثيرا ما تعمل من دون أن تنظر وتفكر، فهي تعرف العمل المنفلت لا النظر المتواني، وتمارس مختلف الاختصاصات من اختصاصات «السلطة التنفيذية» مرورا بـ «المجالس البلدية» و «المؤسسات الخدمية» وانتهاء بـ «الصناديق الخيرية»، ومثل ذلك الالتباس البائس من الطبيعي أن يكشف على سبيل المثال عن قصة أحد النواب ممن «توهّقوا» بالعمل البرلماني والدعاية السياسية، فبات حال العضو والممثل البلدي في دائرته وكأنما هو مدير مكتب النائب الدعوي والخدمي والخيري و... الخ، وهم جميعا في النهاية حققوا للمواطن إنجازات وإن كانت لا ترى بالعيون المجردة!
وإن ترفع البوعينين وغيره من أقطاب التيارات «الإسلامية» في البلاد جاء ترفعا طبيعيا وجائزا «فاغت» رسالته السياسية الآنية على تجارب القوى اليسارية المعتقة، وقابل مثل هذا الترفع أن يكبر ككرة من الثلج والصقيع مع مزيد من الدحرجة الزمنية ودحرجة الأخطاء والخطايا والعاهات المزمنة للتيارات اليسارية في البلاد!
ولعلي لو سئلت حينها عن مزيد من الفروقات بين التيارات اليسارية وعلى وجه التحديد ما سيزعم أنه التشكيل المستقبلي لـ «التيار الوطني الديمقراطي» فسأجيب بأنه وإن كان هنالك تفوق ملحوظ ومعتق للتيارات اليسارية على نظيرتها «الإسلامية» في الذكاء النظري أو التنظيري بحكم الأيديولوجيا والاطلاع والخبرة، فإن الأولى سجلت تواضعا كبيرا ومعتادا في الذكاء العاطفي أو الذكاء الاجتماعي أو حتى «الذكاء السياقي» - بحسب تعبير المفكر الأميركي جوزيف ناي - بالمقارنة مع مستويات هذه الأنواع المترادفة من الذكاء لدى «التيارات الإسلامية»، وهنا بالتالي تتكشف مستويات قياسية من الإخفاق تبدو فيه هذه التيارات ذات المنحى التقدمي كأنما هي عانت الأمرين من عاهة اجتماعية سياسية مزمنة انعكست على سائر أعمالها الميدانية في التواصل مع الجمهور والسياق الظرفي بلغته وحاجته، أو هي ربما فشلت أساسا في أول اختبار ربط النص بالواقع والنظرية بالتطبيق ضمن مسلمات إحياء البعد الاجتماعي لـ «المعرفة» ايا كان جنسها!
وبالعودة إلى المفكر الأميركي جوزف ناي البروفيسور في جامعة هارفارد الأميركية وهو صاحب الفضل الأول في تحديد مفهوم «القوة الناعمة» الذي أراد به أن يشير إلى «قوى جذب وإغراء وإقناع الآخرين بدل إكراههم بوسائل العصا والجزرة التقليدية»، فإنه لربما من المناسب في هذا المقال أن نلقي المزيد من الضوء على مفهوم «الذكاء السياقي -Contextual Intelligence» عبر استعراضنا لما قدمه ناي في كتابه القيم والمميز الموسوم بـ «القوى من أجل القيادة» الذي صدر أخيرا وقد انتهيت من الاطلاع عليه، وهو يقدم رؤية وقراءة معمقة لأبعاد مفهوم القيادة (Leadership) في زمن العولمة، كما ينطلق ناي في تناول موضوع «الذكاء السياقي» عبر قاعدة نظرية مفادها أن «القيادة علاقة قوة بين القادة والأتباع، والقوة تخضع حتميا لظروف السياق» ويطرح سؤالا جوهريا يستهل به بحثه وهو «لماذا ينتصر بعض القادة في سياق ويخسرون في سياق آخر؟» ليستعرض نماذج من الأمثلة التاريخية والمتنوعة من حقول السياسة والمال والأعمال والثقافات المتعددة، وهو يستشهد بمأثور شعبي هو «خيول للمضامير» الذي يدل على حقيقة طبيعية هي أن «هنالك خيولا تعدو بشكل أفضل في المناطق اليابسة وأخرى تتفوق عدوا في المناطق الموحلة».
ويشير المؤلف إلى أن هنالك بعض القادة ممن امتازوا بمهارات برزت لديهم بشكل أفضل في سياقات ومراحل من دون غيرها ومنهم رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستن تشرشل والرمز السياسي البولندي ليخا فاليسا وعمدة نيويورك السابق رودولف جولياني، ممّا أهلتهم عملية الاستغلال الأمثل لتلك المهارات السياقية لأن يكونوا بامتياز رجال تلك المراحل، كما أنه يتناول قولا لأحد منظري القيادة يرى القيادة بأنها «فن حيوي بحيث يرقص فيه القائد مع السياق والمشكلة والأحزاب والهدف».
ويرى البروفيسور ناي في كتابه أن مهارات القيادة مختلفة، فمنها ما يتعلق بفن توجيه العلاقات الشخصية وفن تأدية المهمات وفنون الإيحاء والإقناع والتنفيذ، ولكن النجاح في كل حالات القيادة إنما يعتمد أساسا على إدراك القادة بصورة موضوعية ومتكاملة لبواعثهم ومحفزاتهم، ومدى قدرتهم على أقلمة مهاراتهم مع مقدار ما يمتلكون من سيطرة في التعامل مع مختلف الظروف التي تشمل طبيعة الجماعة، والموارد المتوافرة لهم في مواقعهم، ووضعياتهم، ومدى وضوح المهمة.
ويستشهد المؤلف في هذا الصدد بما ذكره اختصاصيا علم النفس ريتشارد هاكمان وراث واغمان بأنه «لا توجد هنالك طريقة واحدة لقيادة فريق، فالنجاح يعتمد على الدقة واكتمال النموذج العقلي للقائد المدرك لخصوصية الظرف، والمهارة في تنفيذ السلوكيات المطلوبة لذلك الظرف، وحصاد دروس الخبرة»، بالإضافة إلى رؤية كل من أنطوني مايو ونيتن نوهريا من كلية هارفارد للأعمال لمفهوم «الذكاء السياقي» على أنه يعني «القدرة على فهم بيئة تتطور باستمرار مع الاستفادة من الاتجاهات»، كما أن هذا النوع من الذكاء هو بمثابة «مهارة تشخيص بديهية تساعد القائد على تبني تكتيكات ملائمة مع أهداف تخلق استراتيجية ذكية تتأقلم مع ظروف متعددة»، فالقادة من أصحاب الذكاء السياقي أو المرحلي ليسوا سوى أولئك ممن ينجحون في الاستعانة بتدفق الحوادث المختلفة ليخلقوا استراتيجية ذكية كما يرى المؤلف، إذ إن «الذكاء السياقي» أو «الذكاء المرحلي» لا يتضمن تقدير الهيئة فقط والأشكال السياسية لدى جماعة، وإنما يتطلب فهما للمواقع وللقوى المختلفة للشركاء المتعددين Stakeholders فيما يساعد على تقرير وقت وكيفية استخدام «المهارات العملياتية» (Transactioanl Skills) و «المهارات الإيحائية» (Inspirational Skills)، وبالتالي الذكاء السياقي يترابط مع الذكاء العاطفي، وقد يرشد إلى أن هنالك بعض الظروف التي تحتم اتخاذ قرارات سلطوية وظروف أخرى تتطلب إجماعا!
ويحدد المؤلف جوزيف ناي أبعادا رئيسية لـ «الذكاء السياقي» ينطلق من خلالها لشرح مختلف جوانب المفهوم الواسع، وهذه الأبعاد هي «فهم السياق الثقافي» و «توزيع موارد القوة» و «حاجات ومطالب الأتباع» و «إدارة المخاطر والأوقات الحرجة» و «تدفق المعلومات» سنتناولها في المقال القادم بإذن الله تعالى.
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 2157 - الجمعة 01 أغسطس 2008م الموافق 28 رجب 1429هـ