العدد 2217 - الثلثاء 30 سبتمبر 2008م الموافق 29 رمضان 1429هـ

«العلمانيون» والطائفية اللبنانية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

بعد سجال دام ثلاثة أيام وافق مجلس النواب اللبناني على قانون الانتخابات الذي ستنعقد على أساسه دورة الربيع المقبل. القانون اعتمد صيغة دورة 1960 التي اعتبرت القضاء وحدة انتخابية، وهذا ما أثار حفيظة القوى السياسية «العلمانية» التي ترى في الخطوة عودة إلى الوراء وتنتقص من حقوق فئة من اللبنانيين.

الاعتراض «العلماني» فيه وجهة نظر من الجانب السياسي العام ولكنه قاصر في حال تم الاحتكام إلى الواقع اللبناني وتضاريسه الطائفية والمذهبية والمناطقية. فالاعتراض صحيح نظريا (مثاليا) ولكنه ليس دقيقا في مجاله العملي لكونه يصطدم بعقبات تتصل بطبيعة النظام الذي يقر بشرعية الطوائف وحصصها الثابتة. وهذا النوع من الحماية القانونية لحق تمثيل كل الأطياف في البرلمان أدى إلى اختراع نظام انتخابي يتمتع بمواصفات تضمن نسبة معينة لكل طائفة معترف بها في الدستور. وبما أن «العلمانية» ليست طائفة وإنما مجرد فئة سياسية ايديولوجية فإن النظام لا يأخذ بوجهة نظرها قبل تعديل الدستور وإلغاء الطائفية السياسية ونظام المذاهب (قوانين الأحوال الشخصية).

أزمة «العلمانيين» في لبنان لا تقتصر على حق التمثيل. فهذه الأزمة تتجاوز النواقص الموجودة في القانون الانتخابي باعتبار أن شريحة «العلمانيين» ضعيفة في مختلف الطوائف والمذاهب ونسبتها لا تتعدى 8 في المئة في أحسن الحالات. وسبب ضعف قوة «العلمانيين» الانتخابية يعود أساسا إلى تكوين الكيان وتركيبته وثقافته وتوزع مراكز قواه على مناطق تتحكم في آلياتها مراجع تقليدية تتمتع بنفوذ على الجمهور الانتخابي.

مشكلة «العلمانيين» أنهم لا يعترفون بهذه الوقائع ويبالغون بقوتهم الذاتية إلى درجة مناكفة الحقائق الميدانية التي تظهر أمامهم يوميا. وبسبب هذا العناد الايديولوجي فشل التيار «العلماني» في إقناع الناس بوجهة نظره حتى حين ينطق ببعض الآراء الايجابية في الجانب السياسي من المسألة.

«العلمانيون» يطالبون بالنظام النسبي واعتماد لبنان دائرة انتخابية واحدة و»كوتا» نسائية وخفض سن الاقتراع (من 21 إلى 18 سنة) والحصول على بطاقة انتخابية واعطاء فرصة للمغتربين للتصويت والاختيار... وغيرها من اعتراضات قد تكون صحيحة نظريا، ولكنها ليست كذلك في حال فحصها على أرض الواقع. خفض سن الاقتراع مثلا لا يزيد بالضرورة من نسبة الكتلة العلمانية التصويتية لأن الشباب المعاصر في لبنان متدين أكثر من جيل السبعينات. كذلك في حال اعتمدت صيغة «الكوتا» للنساء فليس ضروريا أن تكون المرأة صاحبة الحظ بالفوز من صنف «الحداثيات» بل يرجح أن تقتحم المحجبات مقاعد البرلمان. والأمر نفسه ينطبق على المغتربين في اوروبا وأميركا واستراليا وافريقيا والدول العربية إذ ان معظم العاملين في الخارج يرتبطون بالداخل اللبناني بتلك القنوات التقليدية التي تتكفل بإعادة إنتاج ثقافة ذهنية ليست بعيدة عن صور الفضائيات والمرئيات اللبنانية.

أزمة «العلمانيين» تاريخية وأكبر بكثير من قانون انتخابات. فالأزمة وجودية وبنيوية وعضوية وتمتد إشكالياتها إلى عدم تجانسها مع طبيعة العمران (الاجتماع البشري) الذي يتكون منه الكيان السياسي. حتى إذا اعتمد مجلس النواب النظام النسبي في جولته الانتخابية المقبلة في العام 2013 فإن احتمالات فوز التيار العلماني تقارب الصفر إلا في حال تفاهم مع قوى سياسية أخرى تتمتع بشرعية تقليدية في الشارع. وإذا اعتمد النواب لبنان دائرة جغرافية واحدة فإن حظوظ العلمانيين لن تتجاوز نسبة 8 في المئة في أحسن الحالات والظروف.

ادعاء «العلمانيين» أنهم يتمتعون بقدرات شعبية هائلة غير مرئية أو بغالبية من الأنصار غير منظورة مجرد كلام ايديولوجي يطلق عشوائيا بمناسبة الانتخابات النيابية. فكل الاستطلاعات تشير إلى ضعف يتراكم سنويا بسبب عدم قدرة هذا التيار على إعادة قراءة الواقع والتعامل معه بموضوعية. ومكابرة «العلمانيين» وتطاولهم الايديولوجي على الحقائق أدى إلى تهميشهم وعدم أخذ اعتراضاتهم بالاعتبار والتعاطي معهم أحيانا وكأنهم قوة غير موجودة.

هوية ضائعة

اعتراضات «العلمانيين» قد تكون صحيحة في جوانبها النظرية ولكنها تحتاج إلى قراءة مخالفة لتلك المنطلقات الايديولوجية التي يعتمدونها حتى تصبح موضوعية وقابلة للاحترام والنقاش. فالمشكلة التي يعاني منها «العلماني» في لبنان هي أساسا مشكلة «اللبناني» الذي لا يجد لنفسه ذاك الموقع أو المكان لأنه «لبناني» وليس طائفيا ومذهبيا. اللبناني هويته ضائعة وغامضة، وهو المضطهد والمحروم والمظلوم وليس «العلماني». والبرلمان الذي يضم 128 مقعدا موزعا بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين (64 لكل فئة) وبعدها تتقاسم طوائف ومذاهب ومناطق كل ديانة المقاعد بحسب التراتب النسبي. ومثل هذا القانون المركب بين المساواة الدينية والنسبية الطائفية والمذهبية وبين توزع المقاعد جغرافيا على الدوائر الانتخابية (القضاء أو المحافظة أو نصف المحافظة) لا يعطي «اللبناني» حق الترشح في اعتبار أن النظام لا ينص على وجود مقاعد لفئة تحمل نظريا هوية لبنانية.

مشكلة الكيان السياسي لبنانية وليست علمانية. والقانون الذي اعتمده المجلس النيابي في جلسته الأخيرة «لمرة واحدة فقط» يرجح الا يتعدل في العام 2013، وإذا تعدلت بعض نصوصه فإن المعادلة الطائفية والمذهبية لن تتعدل حتى لو تغيرت التقسيمات الجغرافية للدوائر الانتخابية. فالمشكلة تبقى في الضمانات والحمايات والحقوق المعطوفة على مخاوف اقليات وقلق أكثريات... وهي في المحصلة العامة تعكس عدم قناعة الجماعات الأهلية بالهوية الجامعة والبديل «اللبناني» للطوائف والمذاهب والمناطق. حتى الحلفاء في قوى «8 و14 آذار» اختلفوا خلال تلك السجالات التي سبقت اقرار قانون 1960. فداخل كل كتلة سياسية ظهرت تلاوين طائفية ومذهبية ومناطقية عكست قراءات غير متوافقة على التفصيلات المتصلة بالدوائر الانتخابية.

المشكلة هي الحل، والحل مشكلة. هناك مشكلات طائفية ومذهبية في لبنان وحلها المنطقي والواقعي اختراع نظام انتخابات يتأقلم مع طبيعة الكيان الديموغرافية وتنوعه الأهلي. والحل المنطقي والواقعي المتجانس مع التكوينات السكانية وتضاريس الأطياف تحول إلى مشكلة سياسية لأنه عطل تطور الفكرة اللبنانية وعرقل نمو الهوية الجامعة وأسهم في توليد «دولة» مشلولة وضعيفة وغير قادرة على حماية الحدود وضمان أمن المواطن وتأمين معاشه من دون وساطة «الاقطاعات» وامراء الحروب والطوائف.

اعتراضات «العلمانيين» على قانون الانتخابات الذي أقره المجلس النيابي تبدو سخيفة وباهتة وبائسة في تعاملها الايديولوجي مع خريطة سياسية معقدة في تشكيلها السكاني وتركيبها المناطقي. فالاعتراضات صحيحة نظريا ولكن كل نظرية لا معنى لها إذا كانت بعيدة عن حركة الواقع وشروط الاجتماع البشري وثقافته ورؤيته ومدى تقبله للوافد (الجديد) ورفضه للموروث.

«العلمانيون» في لبنان أقلية لا وزن لها في المعادلة السياسية. وهذا الضعف تتحمل مسئوليته الثقافية مجموعة عوامل تاريخية وتكوينية تتجاوز حدود الاعتراضات النظرية على قانون انتخاب وتقسيماته الإدارية والنسبية. لذلك تبدو كل الاحتجاجات الخطابية التي أطلقها «العلمانيون» سطحية ولفظية ولن تنجح في تحريك الساكن.

«العلمانيون» مطالبون بإعادة قراءة الواقع والتعامل مع الحراك الاجتماعي بموضوعية تأخذ في الاعتبار أن لبنان يعتمد دولة لا هوية جامعة لها، والدولة تستند إلى نظام يخرّج سنويا مجموعات طائفية ومذهبية تدافع عن عصبيات صغيرة الانتماء ومصالح ضيقة لا تتجاوز حدود القضاء أو المحافظة. وهذا النوع من الحلول تتشكل منه أزمات لبنان الدائمة، وهي أزمات تحتاج إلى تسويات مؤقتة حتى تتعب الطوائف والمذاهب من التجاذب وتتوصل المجموعات الأهلية إلى مصلحة مشتركة تضغط ثقافيا باتجاه البحث عن هوية جامعة. حتى الآن تبدو الحاجة مؤجلة «لمرة واحدة فقط» وربما لمرات ومرات وأبعد من دورات 2013 أو 2017 أو 2021

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2217 - الثلثاء 30 سبتمبر 2008م الموافق 29 رمضان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً