أين يقع «العالم» في المناظرات الأميركية الرئاسية التي بدأت رسميا في الأسبوع الماضي بين المتنافسين على المنصب؟ الإشارات الأولى تدل على وجود بداية تراجع في الاهتمام بشئون العالم لمصلحة نمو ملفات محلية أخذت تشد انتباه الناخب (دافع الضرائب) الأميركي.
اختلاف الأولويات في المناظرات الرئاسية يشير إلى احتمال بدء الولايات المتحدة في دخول فترة من الانكفاء إلى الذات وربما اختيار العزلة بصفتها تشكل ذاك الملاذ الآمن لترتيب شئون البيت. احتمال ظهور هذا التوجه ليس جديدا في التاريخ الأميركي. وحصل مثل هذا الأمر بعد أن اتخذت واشنطن قرار الانسحاب من جنوب شرقي آسيا (فيتنام، لاوس، كمبوديا) في منتصف السبعينات. فالانسحاب العسكري أوجب اتخاذ خطوات سياسية بديلة اعتمدت على فكرتين: الأولى إعادة بناء القدرات الذاتية وتحسين صورة أميركا وسمعتها الدولية في العالم. الثانية تعزيز قدرات قوى إقليمية صاعدة تلعب دورها بالنيابة عنها منعا للانهيارات وتحسبا لتقدم الدول الكبرى لتعبئة الفراغات.
سياسة الانكفاء إلى الداخل الأميركي ليست جديدة فهي اتبعت مرارا في لحظات زمنية لحماية «الذات القومية» من التفكك ولضمان أمن مصالحها بواسطة استخدام قوى إقليمية (وكلاء) تلعب دور الوسيط المحلي تحت سقف من الرقابة المتشددة. والانكفاء إلى «الذات القومية» لا يعني الخروج الكامل من العالم وإنما هو مجرد خطوة تراجعية للحد من الضغوط الدولية استعدادا لاتخاذ خطوات هجومية في مرحلة لاحقة. وهذا ما حصل حين بدأت الولايات المتحدة في تنظيم اندفاعها الدولي في الثمانينات مستفيدة من تحولين كبيرين: الثورة الإيرانية التي أسقطت الشاه، والاجتياح السوفياتي لأفغانستان الذي زعزع التوازن الإقليمي في غرب آسيا.
منذ الثمانينات تحولت الولايات المتحدة إلى حاجة دولية (أوروبية تحديدا) تطالب إدارتها بالتدخل لمساعدة تلك المناطق المهددة بالسقوط في الإطارين المجاورين لإيران وأفغانستان. وخلال الثمانينات والتسعينات تحولت الحاجة الدولية للولايات المتحدة إلى ضرورة استراتيجية انتهت في انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك المعسكر الاشتراكي ونجاح ما عرف لاحقا بالنموذج الغربي وطروحاته الايديولوجية المتهورة (آليات السوق، منع تدخل الدولة لضبط التنافس، النيوليبرالية، الرأسمالية المتوحشة) وسط صيحات تدعو إلى «نظام دولي جديد» يعكس تحولات نمو عصر «العولمة».
هذه النزعة الدولية شجعت الإدارات الأميركية على استعادة فعاليتها وبدأت تعمل بناء على تلك المتغيرات التي اجتاحت أوروبا الشرقية وشرق آسيا لتأسيس مواقع نفوذ ثابتة تقودها مباشرة إلى المناطق الساخنة من دون اعتماد على وكلاء وقوى إقليمية.
عودة أميركا إلى الخروج جاء على قاعدة نمو قوتين ايديولوجيتين محليتين: الأولى المسيحية الإنجيلية الأصولية. والثانية تيار المحافظين الجدد. وحين تحالفت القوتان داخليا تشكلت إدارة في واشنطن اعتمدت سياسة الهجوم الدولي للدفاع عن المصالح الأميركية ضد ما أسمته نمو «قوى أصولية إسلامية» وامتداد شبكات «إرهاب دولية».
مكافحة الأصولية والإرهاب شكلت ذريعة لتبرير الهجوم المعاكس للإدارة البوشية مستفيدة من الانهيارات والتحولات والمتغيرات. فأميركا وجدت في غياب المنافس الدولي فرصة للتقدم وتعبئة الفراغ والانفراد بالقرار بهدف قيادة العالم نحو نموذج تراه واشنطن يناسب كل الشعوب في مختلف الأمكنة والأزمنة.
الآن وبعد تجربة قاسية بدأت الولايات المتحدة تصاب بحال من «الفوضى البناءة» في سوقها القومية المالية وتصطدم بمجموعة اعتراضات سياسية دولية أخذت تتشكل أو تستفيق على ضفافها في المجال الحيوي الممتد على طول «الشرق الأوسط الكبير». وهذا الجديد أحدث ما يشبه الصدمة التي تذكر بتلك التي حصلت في منتصف سبعينات القرن الماضي في جنوب شرقي آسيا وأدت إلى نوع من الانكفاء الأميركي إلى الداخل.
مادة المناظرات
المناظرات الرئاسية التي بدأت الأسبوع الماضي بين المتنافسين الديمقراطي باراك أوباما والجمهوري جون ماكين أظهرت ميلا لمثل هذا التوجه السبعيني الذي يشير إلى نوع من نمو دعوة للعودة إلى «العزلة» لترتيب شئون «البيت القومي». وايديولوجية الانعزال (الانكفاء إلى الداخل) ليست جديدة في التاريخ الأميركي وإنما تعتبر عادة سياسية تشكل ذاك الملاذ الآمن لمحاسبة الذات وإعادة القراءة والبدء في المراجعة والاستفادة من التجارب وتعلم الدروس وأخذ العبر.
المناظرات الرئاسية هي بمثابة تقليد محلي تعطي عينة ايديولوجية عن مادة سياسية يتم إعدادها وراء الكواليس ويراد اختبار مدى حساسيتها وشعبيتها قبل إخراجها إلى العلن وتسويقها في الشارع (الناخب ودافع الضرائب). وأهمية هذه المناظرات أنها تقدم فكرة موجزة عن اهتمامات مشروع يراد إنتاجه بعد الانتهاء من إعداد عناصره القابلة للترويج والطامحة لكسب نسبة عالية من الأصوات التي يحتاجها كل فريق للفوز بالمعركة. وبسبب الخوف من الصدمة وردود الفعل عليها يتجه كل طرف إلى التواضع وعدم المغامرة في كشف أوراقه.
المناظرات الرئاسية دقيقة في حساباتها ومدروسة في لغتها وإشاراتها ورمزيتها لأنها تريد إعطاء صورة عن ملامح غامضة بشرط عدم المبالغة في تقدير الظروف والأخطاء حتى لا يسقط المنافس في الامتحان وينفرط عقد الحالف الانتخابي. والحرص على عدم إثارة مخاوف الجمهور يفرض على المترشح اعتماد نصوص مرنة يمكن الدفاع عنها في حال ظهرت انزلاقات سيئة خلال السجال. وهذا ما يمكن ملاحظته من أولى المناظرات إذ بذل كل مترشح جهده لعدم التورط في نصوص جاهزة وصلبة ونهائية حتى لا تتحول إلى أدلة دامغة تستخدم ضده لكشف استراتيجيته في السنوات الأربع المقبلة. إلا أن التردد في عدم كشف كل الأوراق لا يعني أن الزوايا لا تزال غامضة من مختلف الجهات. فهناك الكثير من النقاط يمكن التقاطها لرسم صورة عن توجهات الإدارة المقبلة بغض النظر عن شكل الرئيس ولونه وبرنامجه الحزبي الانتخابي.
أهم ما يمكن تلمسه من تلك الإشارات هو وجود نوع من التوجه إلى «الذات القومية» وبداية تراجع إلى «الداخل المحلي» وظهور نزعة ارتدادية عن مرحلة اتسمت بالهجوم الدولي. فهذا التوجه المتواضع في بداياته يكشف عن طور زمني لاحق مغاير للظروف الجارية أو على الأقل يميل إلى التموضع وعدم الاستمرار في سياسة الكسر والتحطيم والتقويض التي اتبعتها الإدارة الحالية في السنوات الثماني الماضية.
الانكفاء الأميركي والانزواء في إطار الجغرافيا السياسية والمجال الحيوي لا يعنيان أن إدارة واشنطن المقبلة قررت العزلة النهائية وعدم التعامل مع الملفات الدولية. فالولايات المتحدة لا تستطيع أن تعيش وتنمو وحدها بعيدا عن العالم كذلك فهي غير قادرة على السيطرة على العالم والانفراد بقيادته من دون مشاركة دولية. ومثل هذه المعادلة الثنائية يمكن قراءة عناصرها التكوينية في تضاعيف نصوص المناظرات التي أخذت تشد الانتباه إلى الداخل والتركيز على الأزمات النقدية (العقارات وأسواق المال) من دون إهمال للملفات الدولية. وهذا الانكفاء المدروس يشكل خطوات تراجعية عن سياسة هجومية اتبعتها إدارة جورج بوش في منطقة «الشرق الأوسط».
الإدارة المقبلة مهما كان لونها لن تكون في هيئتها وتصوراتها متشابهة مع الحالية. وهذا الاختلاف يشكل بحد ذاته إشارات أولية لوجود نوع من القراءات المغايرة للتوجهات الأميركية التي ارتسمت معالمها تحديدا في مجال أوراسيا (أوروبا وآسيا). ومن هذه المنطقة الغنية والاستراتيجية والحيوية تجاريا يمكن رؤية تلك التحولات المحتملة في الاستراتيجية الأميركية خلال فترة السنوات الأربع المقبلة. فالتموضع الاستراتيجي يقتضي اتباع سلوك السبعينات الذي اعتمد على وكلاء (قوى إقليمية) لمنع المصالح الأميركية من الانهيار.
الانكفاء لا يعني العزلة الكاملة والشاملة وإنما خطوة إلى الوراء تشير إلى محاولة لإعادة التكيف وبدء التفكير بسياسة بديلة تعتمد على أولويات ليست بالضرورة متوافقة إلى حد التطابق مع فترة بوش، ولكنها متجانسة مع شروط المصالح التي تتطلب إعادة إنعاش قوى إقليمية وتعويم دورها في حوض استراتيجي حيوي في الموازين الدولية.
أميركا بدأت تدخل مرحلة ما بعد بوش. والمناظرات التي سيشهدها شهر أكتوبر/ تشرين الأول المقبل ستكشف عن الكثير من ثنايا الصورة وخفاياها لكون الأسابيع الجارية تشكل خطوات تمهد الطريق للالتفاف تجنبا لتكرار السقوط في مشروع هجومي كبّد الولايات المتحدة خسائر نقدية هائلة ولم تربح العالم في مقابله
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2216 - الثلثاء 30 سبتمبر 2008م الموافق 29 رمضان 1429هـ