لكي نصل إلى واقع افضل يجب ان نمتلك جرأة الاعتراف بالخطأ، فاليابان لم تتقدم الا عندما اعترفت ببعض اخطائها، وسنغافورا هذه الدولة الصغيرة لم يقفز مستوى دخل الفرد فيها سريعا وتصل إلى مستوى الدولة الحديثة الحقيقية الا عندما عالجت جميع أسباب الازمة التي تعيشها ممتلكة شجاعة نقد الماضي والواقع الذي تعيشه لذلك تأهلت.
نحن في العالم العربي نعاني من بروز «العنترية» في التباهي والافتخار حتى بالخطأ، أو نعاني من ازمة التضخم في كل شيء على رغم أننا نعيش الكثير من المشكلات التي مازلنا نخاف الولوج فيها أو الاقتراب منها.
الأمية بلغت في بعض دولنا العربية إلى 80 في المئة ومازلنا ندعي تحضر منهجنا التعليمي وندعي ان اقتصادياتنا مازالت تواكب العالمية في الحداثة والتطور في حين اننا مازلنا نستورد 90 في المئة من طعامنا ومازلنا غارقين في المديونية واملاءات المنظمات التجارية وصناديق الابتزاز الدولية ابتداء من صندوق النقد الدولي مرورا بالبنك الدولي وانتهاء بمنظمة الجات.
وعلى رغم بعض المجاعات في عالمنا الثالث فإننا مازلنا ندعي التحضر ومازلنا نهدر بقية اموالنا على استراتيجية تسلح غريبة غير مبررة . الاموال تتآكل في حروب عربية، وفي قمع تظاهرات عربية وفي وضع مساحيق اعلامية لتجميل الصورة.
فمعدلات الانفاق على السلاح في تزايد مستمر فقد تجاوز في السنوات الاخيرة الف مليار دولار في حين نستطيع - كما تقول الدراسات العلمية - ان نلغي الامية تماما من العالم بعشر هذا المبلغ.
وهكذا هو العالم يتجه نحو عسكرة واقعه السياسي ولو على حساب استقراره فتجد كل شعارات الديمقراطية مازالت عالقة في الهواء على رغم توقيع مثل هذه الدول وخصوصا العربية اكثر المواثيق الدولية المتصلة بحقوق الانسان ومازال يصادر حق الانسان في التفكير والاعتقاد والتعبير والاجتماع والعمل والتنقل والعبادة والتملك وغيرها من الحقوق. فأكثر هذه الحقوق اصبحت تقنن بطريقة التفافية بحيث لا تصبح لها اية صدقية على الواقع فتحول إلى مظاهر حقوقية وواجهات اعلامية تعمل على تلميع الصورة وتصدير الوجه الجميل على حساب ما هو واقع على الارض.
وحتى الدول الغربية مازالت تدفع باتجاه الديمقراطيات الشكلية ومازالت تسير في اتجاه ما يخدم مصالحها. فالعالم اصبح بلا ديمقراطية ومن دون انسان على حد تعبير روجية جارودي.
لهذا نجد كيف سيطرت هذه الدول خصوصا الولايات المتحدة على العالم فقد سيطرت مؤسساتها الرأسمالية على ادوات الاتصال والتعليم والتثقيف واخذت تعمل على تشكيل وعي الجمهور بالطريقة التي تتناسب مع مصالحها الخاصة واخذت تتجه إلى تسويق السلاح في العالم الثالث بطريقة ابتزازية ابتزت من خلالها كل مكامن القوة فيه بمن فيه النفط.
وكل ذلك يأتي على حساب هذه الشعوب والاستقرار السياسي والاقتصادي لأن حجم الانفاق آخذ في التزايد بطريقة جنونية ما يعزز ازمة الثقة بين هذه الدول ورعاياها. في حين بامكان مثل هذه الدول استثمار واستغلال هذه الاموال لتحديث البنى التحتية في دولها لتصب في خدمة المواطن خصوصا عندما تصب في اعادة بناء قطاع الخدمات التي يلامس نبض الناس ولكن تبقى مثل هذه الاطروحات مجرد امنيات واحلام وردية يعيشها المواطن العربي خصوصا عندما يصطدم مع بعض المفارقات من قبيل ان ثمن غواصة ذرية واحدة كافٍ لانقاذ 160 مليون طفل في 23 دولة متخلفة من الامية، وان قيمة طائرة حربية واحدة كافية لاستحداث 40,000 صيدلية في القرى النائية.
ان مثل هذه المفارقات لاتزيد الفقراء في العالم وخصوصا العالم الثالث الا نقمة وشعورا بالاحباط واليأس تجاه التغيير خصوصا وهم يستعرضون مشهد البؤس المعيشي اليومي الذي يعيشونه وهم يرون كيف تهدر الاموال العامة في مشروعات تؤكلهم حديدا بدل ان تطعمهم خبزا يحفظ لهم البقاء. وفي عالمنا الثالث وخصوصا الدول العربية اصبحت افضل سوق لشراء الاسلحة إذ تبذر الاموال بطريقة جنونية يشعر فيها المواطن ان الكثير من الصفقات تعقد بطريقة تفرض حكم الحجر على الاموال بسبب انها تأتي على طريقة (بيع الغبن)، وهو بيع ملازم للسفه وسوء استخدام الاموال بطريقة غير صحيحة. حتى بات الاسلوب الكيفي في بناء الدول بأقل الخسائر والصرف هو المعيار في قياس صحة الاعمار. فقد تعطى 150 مليار فتبني دولة حداثتها بما يصل إلى 50 في المئة وقد تعطى 70 مليار فتبني دولة اكثر حداثة وتنموية وقوة حداثتها بنسبة تصل إلى 70 في المئة وهذه مفارقة يجب وضعها في مقياس بناء الدول وتحديثها. فالقضية كم بنيت من المبلغ وكم بذرت وأهدرت؟ فمبلغ كبير قد تصنع به دولة حديثة ظاهريا ولكنها تستبطن العشرات من الالغام المعيشية والسياسية في حين بامكان نصف ذلك المبلغ لو انفق بالطريقة الصحيحة ان يخلق مجتمعا ابداعيا وتغييريا و«حداثويا» قائما على الاستقرار المجتمعي والسياسي وحتى الاقتصادي.
نحن بحاجة إلى اعادة قراءتنا للمصداق الحقيقي للتنمية فعالم اليوم وفق النظرية الرأسمالية تدعي تحديث المجتمعات غير انها مازالت تساعد على اتساع الهوة بين الفقراء والاغنياء وخصوصا في ظل العولمة الاقتصادية. فالعالم اليوم بحاجة الى تأنيس الحضارة والتقدم خصوصا بعد ان توحشت تقنياتها وسياساتها في ظلل فلسفة مادية قائمة على الربح السريع وقائمة على نظرية ميكافيللي. اننا نعيش وخصوصا في عالمنا الثالث تحديثا مغشوشا يستبطن الكثير من بؤر التوتر العالقة تحت جلد مثل هذا التحديث. لأن الحداثة ليست بناء عمارات وناطحات سحاب وانما الحداثة اضافة إلى كل ذلك تعني بناء دولة قائمة على المؤسسات والقانون وهذا ما نطمح اليه.
ليس ذلك مستحيلا اذا كانت هناك ارادة وقناعة بالتعددية في مجتمعاتنا واذا كانت هناك قناعة لدى جميع مراكز القوى بلا استثناء.
ولقد عاد العقيد الفار إلى الديمقراطية البحرينية بعد سيل من التساؤلات والتكهنات التي سبقت ما قبل المجيء لاشك ستكون لمجيئه تداعيات وجدل ولغط كبير ولكن يجب ان نضع في الحسبان - لأجل استيعاب هذا اللغم الكبير - تحري الحذر والحيطة في استرجاع مثل هذا اللغم بالطريقة التي تصب في مصالح الحرية والكرامة والأمن السياسي ايضا. فالرجل ليس عنده ما يخسره وبإمكانه ان يأتي على البقية الباقية من قنوات الاتصال المتوافرة. فهناك جمعيات سياسية وحقوقية ومحامون يجب ان يكونوا هم الجهة المستوعبة للحدث وستبقى تساؤلات مازالت عالقة في ذهن المواطن البحريني قد تعمل على ضبابية الرؤية في قراءته للمستقبل منها عودة العقيد الفار والتي اعتقد انها ستكون بمثابة الاختبار الاصعب للديمقراطية البحرينية وسيثير رجوعه تساؤلات كثيرة عن الجهة التي تدعمه وتعمل على اعادة تأهيله وسيبقى رجوعه مؤشرا يعطي دلالات مربكة لقراءة المشهد السياسي وسيبقى نقطة تضاف إلى نقاط مازالت غامضة التفسير لكثير منا خصوصا نحن المراقبين الذين نبحث عن نقاط الالتقاء لتعزيز الرؤى الوسطية لبقاء «شهر العسل» على ألا يكون «بصلا» بين المعارضة والسلطة فهل ننجح في ذلك أم ان المستقبل سيكون اصعب مما يتصوره كاتب او رقيب؟
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 80 - الأحد 24 نوفمبر 2002م الموافق 19 رمضان 1423هـ