عندما قرأت قانون المطبوعات والنشر البحريني أصبت بخيبة أمل. كنت أعتقد أن المناخ يسمح بالتحدث عن آلام الناس وهمومهم وعن رصد أخطاء وزاراتنا (الرشيدة) و(الحكيمة) و(الصائبة) و(الحجة) و(ظل الله في الأرض).
نحن أشبه بكتّاب صاموا سنين عن الكلام حتى يفطروا على بصلة القانون الجديد!!! ألم أقل لكم سابقا إن الكتابة في العالم العربي أشبه بالمشي على حد السيف. الكل يوجه إليك مسدسه عندما تقترب من المصالح الخاصة. وسيبقى قانون المطبوعات والنشر يتحسس سيف مواده كلما سمع لفظة ثقافة أو نقد أو مساءلة لمسئول يناصره في ذلك قانون (عفا الله عما سلف) البحريني الشهير!!
عندما نحترم الثقافة والفكر يجب أن ننتقي المفردات، وأتعجب من انتقاء بعض مفردات المواد من قبيل (تأديب الصحافي) ألا يوجد في قاموسنا العربي إلا لفظة (تأديب)؟ فهل انتهت كل عبائرنا المتوازنة العربي فلم تبق إلا لفظة (تأديب) ومن يا ترى مؤدبو صحافيي البحرين؟! فهل يمتلكون صدقية تقلد منصب القضاء والحكم على الصحافي؟ ولماذا كل هذه الامتيازات التي تقدم وبالمجان لمحاكمة الثقافة واغتيال الفكر الذي بدا في طريقه إلى النماء بفضل هذا المناخ الديمقراطي الذي يراد تسميمه على رغم دعم عظمة الملك إليه وكبار المسئولين. لماذا تخوّف الدولة من الصحافة؟ ومن وراء النميمة الصحافية؟
المادة (65) تقول:
«مع عدم الاخلال بالحق في اقامة الدعوى الجنائية أو المدنية، لذوي الشأت التقدم بالشكوى ضد الصحافي إلى جمعية الصحافيين التي تختص وحدها بتأديب الصحافيين...»
فعلى رغم احترامي للجمعية التي تمتلك بعض النواب والرؤساء المحترمين بيد أن طموح الكاتب والصحافي البحريني هو انشاء نقابة صحافية تترافع عن هموم الصحافيين لا إلى جمعية تمارس دور الشرطي فتكون قلعة أخرى من قلاع محاكمة الصحافيين... نحن الآن مقبلون على نقابات عمالية واتحادات طلابية وفي بداية تدشين مرحلة أخرى جديدة بعد تلك المرحلة الانتقالية واذا بنا نفاجأ باحراج الجمعية بهذا التقنين وبهذا الاقحام (القانوني) لتمارس دور (جرجرة الصحافيين وتكميم أفواههم). وان كانت بطريقة غير مباشرة.
قانون المطبوعات والنشر أو قانون تنظيم الصحافة والنشر - سمه ما شئت - جاء على طريقة قانون تأميم الصحافة في مصر والذي بدوره جعل الصحافة في جيب (السلطة التنفيذية) فهناك وبالقانون تم كسر قلم مصطفى أمين وأخيه علي أمين، وباسم القانون أصبحت الصحافة أيام الراحل جمال عبدالناصر في يد الدولة، وبدأت فتنة اتهام هيكل بلعب دورٍ في ذلك باعتباره قريبا من السلطة.
الهدية التي يجب أن تمنحها الدولة للصحافة بعد 25 عاما من الصوم والمشي جنب الحائط وملاحقة الرقيب هو مزيد من الحرية والتأمين فهم أولى بالنظام النقابي لأنهم أكثر الناس مساءلة فهم واقعون بين فكي كماشة السلطة والمجتمع، بين سندان مزاجية السلطة ومطرقة غضب الجمهور الذي عبر عنهم علماء الاجتماع بأنهم - أي الجماهير - وحش بألف رأس.
ثانيا الجمعيات المهنية تمارس دور حماية الصحافي لا أن تحول إلى محكمة عسكرية تعقد فيها (لجان التأديب) خصوصا ان أعضاءها جميعا يمارسون مهنة الصحافة بلا استثناء فالأولى للجمعيات المهنية الترافع عن حقوق الصحافي وتعمل جادة لكل الوسائل الضاغطة السلمية إلى تحولنا إلى نقابة لا إلى مفرزة أمن تلاحق الصحافيين، كما وأننا نتساءل لماذا هذه الانتقائية في تحويل الجمعيات ففي الوقت الذي هناك رغبة لتحويل بعض الجمعيات كجمعية أطباء البحرين وجمعية المحامين وغيرهما إلى نقابة تستثني جمعية الصحافيين من كل ذلك وتفرغ من اي ايجابية لجعلها تمارس دور شرطة الآداب (لتأديب الصحافيين).
أين نذهب نحن الكتاب والصحافيين؟ إلى من نشتكي من مضايقات المتنفذين ومن وسائل ضغطهم المستمرة والمكررة، ومن التهديدات المبطنة وغيرها، من حجب الاشتراكات إلى حجب المعلومات عن الصحافة إلى قضايا اخرى لا نحب ذكرها فهم يقومون بذلك وبكل تحدٍ من دون أي رادع. بعض عبارات المواد غامضة مطاطية هلامية زئبقية حمالة أوجه تحمل عدة تفاسير. كيف سيعرف الصحافي ما له وما عليه؟ متى يتكلم، ومتى يصوم عن الكلام؟ ومن المحاسِب له؟ ومن سيعقد محاكمة كلمته فهل أعضاء لجنة (التأديب) الذين سيُختارون، هم فوق مستوى الشبهات وأحكامهم لا تتحمل الطعن وشهاداتهم ليست مجروحة؟
المحيط الصحافي محيط تحكمه عدة اعتبارات وتوازنات ومراكز قوى وتجارة أيضا بما يحمل من مؤسسات نشر وصحف وأفراد متنفذين ومستقلين وكتّاب وصحافيين ذوي أطياف مختلفة وكلهم تحكمهم اعتبارات مختلفة داخل هذا المحيط، وهذه مسألة واضحة للجميع فعندما يأتي القانون داعما لموقع ومركز معين على حساب مراكز أخرى نكون بمثابة تطويع أطرافٍ لصالح طرف خاص قد يجيّر القانون لصالحه بما امتلك من صلاحية «قانونية» في الضغط المباشر أو غير المباشر على المراكز الأخرى المنافسة بما يفقد المنافسة الصحافية النزيهة شرعيتها وقدسيتها، وبالتالي يفهم الصحافيون ان بعض الخطوات - وإن حسنت النية - تأتي في سياق ليّ عنق الصحافة المتوازنة، ولكن بطريقة غير مباشرة ما يسبب دائما أزمة الثقة مستقبليا في أي اجراء (قانوني) تمارسه الجمعية تجاه أي صحافي أو صحيفة.
لا يمكن أن يبدع الصحافي مستقبلا، وهو يرى بعض مواد قانون المطبوعات امامه، وقد أثبتت الدراسات العلمية النفسية أن الابداع لا يمكن أن ينمو في مناخ يحكمه الخوف حتى يصاب بمونولوج داخلي في تحديث النفس والكلام معها بطريقة أقرب إلى الهذيان.
وقد قيل إن أحد المسئولين شعر بالحرج الشديد نتيجة تملق بعض الصحافيين بدرجة تخرج عن المألوف وبطريقة تحرج الجميع بمن فيهم المسئول، شعر بالحرج حين رأى أن كل ما يقوله وإن كان خاطرا عابرا يتحول هكذا بقدرة قادر إلى نظرية فلسفية تحتاج إلى سنين طويلة من الشرح والتنقيب والتوضيح وهناك من وظف كاتبا (لمقالاته) الخاصة!!! نحن نبحث عن صحافة متوازنة تركز على القضايا الجوهرية وتمتلك جرأة اقتحام المظور أو ما يسمى بالمحظور. فالمشكلة التي نعاني منها ان بعض الصحافيين بلغ الهوس المدائحي إلي المطالبة بتقليل هامش الحرية بدل توسيعه على رغم الرغبة الأكيدة للسلطة لرفع السقف. نحن لسنا بحاجة إلى نفاق المؤسسات ولسنا بحاجة إلى تكدس اعداد اضافية من المهرولين للتمسح بالوزارات أو الوزراء، نحن بحاجة إلى من يدفع باتجاه تقدم الثقافة وصاحبة الجلالة (الصحافة) إلى الصفوف الأمامية وأن تخترق كل شيء بما فيه ترسانة المتملقين على حسان السلطة والمجتمع لأن يحتلوا الصفوف الأمامية والكراسي الوثيرة ويسدوا الطريق أمام كل من يريد الكلام.
ما زلنا نسأل كما كان يسأل الروائي الشهير (عبدالرحمن منيف)، عن سر غياب المنابر الجادة في مجتمعنا العربي؟
هل سيكون الانتحار مصير المثقفين البحرينيين وهم يرون أنفسهم في حال اهمال متعمد من قبل دعاة ثقافة من الكتّاب أو ما يعبر عنهم بأنصاف الآلهة؟ هل ستكون هناك (ظاهرة انتحارية) ولو معنويا من قبل المثقفين المتوازنين وهم يلحظون كيف تقنن القوانين كقانون عذاري (قانون التجنيس) أو قانون تأميم الصحافة (قانون المطبوعات والنشر) والتأميم يعنى به جعل الصحافة تحت رحمة السلطة، وتحت رعايتها الأبوية؟
قانون المطبوعات الأخير تذكرت انتحار الشاعر الكبير خليل حاوي وانتحار الأديب الأردني تيسير سبول بعيد انتكاسة حرب أكتوبر 1973م. فلقد بك حاوي لكارثة 1967 وكانت آخر عباراته: رباه كيف استطيع تحمل هذا الحزن؟
لقد عاش صلاح جاهين ويوسف ادريس وغيرهما في زاوية العزلة ومتاه النسيان ومرت سنون وهم على وضعهم فلا تتعجب أبدا أن يخرج عبدالرحمن منيف هائما على وجهه في (مدن الملح) العربية من دون أي احتضان أكاديمي أو ثقافي أو قانوني. فالقانون كان بالنسبة إليه حبل المشنقة وكذلك مظفر النواب والجواهري الذي كان يشتاق حتى إلى سماع صوت نقيق الضفادع في العراق فعندما يسمع نقيق الضفادع تذرف عيناه بعض الدموع. أرأيتم أحدا يحن إلي نقيق الضفادع؟ وكان مثله تماما البياتي الذي كاد الشوق يقتله لرؤية العراق فقال آخر كلمةٍ له: وهو يشير إلى العراق (لقد تحول الوطن لنا إلى منفى والمنفى إلى وطن).
ان أكبر غربة يعيشها المثقف والمفكر الحر عندما يشعر ان ثقافته في طريقها إلى الخنق ولو بقفاز حريري جميل. عندما تتحول حتى الجائزة الثقافية كما في بعض دولنا العربية كالهدية نوعا مستترا من الرشوة الثقافية وأسلوبا من أساليب (تأجير اللسان) على اصطلاح الدكتور بلقزيز. ووراء كل ذلك هم المثقفون الانتهازيون الذين يعملون على تسميم العلاقة بين المجتمع والسلطة، بين المجتمع والمجتمع ذاته، بين المعارضة والسلطة، هم المثقفون (انصاف الآلهة) المشككون دائما في اي اضاءة معرفية ولو كانت حبلى بنبض الناس.
انا اقترح مادام وضعت جمعية الصحافيين البحرينية ضمن الاطار الرسمي المباشر فلتوضع جمعياتنا غير الحكومية السياسية تابعة ايضا إلى وزارة العمل ويعين رؤساؤها من قبل الوزارة وننتهي من كل هذا الجدل ومن وجع الرأس وقطعا لأي مشكلة محتملة مسبقا. وهنا يجب أن يطالب جميع المفكرين والكتاب والصحافيين بنقابة تليق بحجم ثقافتهم وثقلهم في المنطقة فليس العمال بأحق للنقابة من المفكرين والصحافيين. حقيقة نحن لسنا بحاجة إلى مزيد من الزنزانات الثقافية الفردية المتسترة بلبوس العلم والمعرفة. فلم يبق لنا أي ترافع عن العلم في دورنا ومؤسساتنا العلمية.
الجامعة اقتنعت (بمجلس طلابي) هزيل ناعم أنعم من ريش النعام ليس له أي صلاحية وبعض النقابات ختمت ببعض الشخصيات الرسمية أو القريبة، فحذاء بعض المترافعين قيمته الشرائية تفوق قيمة كل العمال الذين (سيترافع عنهم)!!!
وزارة التربية والتعليم تحولت إلى مكتب سياحي لجلب (الاخوان العرب المعلمين) لانعاش الشقق المفروشة للإيجار المملوكة لبعض المتنفذين في الوزارة و( يا جبل ما يهزك ريح)!!
ولم تبق الا الصحافة والتي كانت لنا بمثابة الرئة التي نتنفس من خلالها لايصال صوتنا إلى كبار المسئولين - حفظهم الله - واذا بنا نستيقظ على مواد تأديب غير واضحة المعالم دون أي مذكرة تفسيرية فأنت تكتب ويدك على قلبك من دون أي تأمين ثقافي فبعض المواد تتحمل كل التفاسير المتناقضة والمتشابهة. بكل صدق ومسئولية أقول نحن يجب أن نطالب مع وجود راعي الاصلاح عظمة الملك - حفظه الله - بنقابة صحافيين حتى نقوم بدور الرقابة الصحافية من دون توجس الرقيب وتكون بالانتخابات لا بالتعيين، واعتقد أن ذلك سيرضي حتى أعضاء ورؤساء جمعية الصحافيين لأنهم مثلنا يبحثون عن الشفافية مع تحويل جمعية الصحافيين إلى مكتبة علمية تدعم النقابة لا أن تتحول إلى قاعة لمحاكمة الصحافيين والكتاب، أما غير ذلك فيعني الصوم عن الكلام.
أعتقد أن بعض هذه الهموم التي طرحتها هي هموم جميع المثقفين المتنورين في هذا البلد وكل من يمتلك جرأة الطرح من دون مجاملات. وأختم كلامي بكلام جريء للمفكر البحريني المعروف محمد جابر الأنصاري عندما قال: (ان المواطن العربي يطمح في حكومة بلا لصوص) ونحن نقول: نطمح إلى سقف أقل نطمح إلى صحافة بلا قيود. متى تلتقي الأمنيتان؟
غدا مادام هناك اصلاح يقوده ملك شاب طموح يدعمه مفكرون ومثقفون
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 64 - الجمعة 08 نوفمبر 2002م الموافق 03 رمضان 1423هـ