تباينت الأسباب وتعددت الدوافع وراء اعتراف بيونع يانغ بمواصلة بناء وتطوير مشروعها النووي في انتاج اليورانيوم المخصب. وبادئ ذي بدء، جاء الاعتراف في سياق اعلان الرئيس الأميركي جورج بوش ودعوته إلى اعتماد الدبلوماسية والحوار طريقا إلى حل الأزمة النووية في شبه الجزيرة الكورية. رحبت كوريا الشمالية، ثالث دولة في «محور الشر»، بالإعلان الأميركي واعتبرته انعطافة كبيرة في السياسة الخارجية الأميركية ونهجها المتشدد فيما بعد احداث 11 سبتمبر/أيلول. وقال كيم يونغ نام، الرجل الثاني في حكومة بيونغ يانغ، «ان بلاده على استعداد للتعاون حول مشروعها النووي اذا ما تخلت الإدارة الأميركية عن سياستها العدائية تجاه كوريا الشمالية»، وحمل الاعلان - الاستعداد في طياته جملة أمور ما انفكت بيونغ ترددها وتطالب بها منذ مطلع التسعينات في أطار سياستها الجديدة للتنمية الاقتصادية. وتجسدت هذه المطالب والأمور في اتفاق 1994 بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، عن اغلاق مشروع الأخيرة النووي مقابل تقديم واشنطن مساعدات اقتصادية وتقنية، 500 ألف طن من الوقود وأقمار إصطناعية، وبين عامي 1994 و2000 خاضت واشنطن وبيونغ يانغ جولات عديدة للمحادثات خرجت باتفاقيات لم تغب عنها اشباح الحرب الكورية (1950 - 1953) ومخلفاتها، حيث قصرت الاتفاقيات جميعا عن رفع الحظر الاقتصادي والمقاطعة السياسية عن كوريا الشمالية. وكانت وطأة التسعينات ثقيلة وشديدة الوطأة على اقتصاد الأخيرة وحياة الشعب، تعطلت وانهارت البنى التحتية ومات أكثر من مليوني شخص في السنوات الأخيرة.
وأمام تفاقم الأزمة الاقتصادية، عادت بيونغ يانغ إلى خيارها العسكري القديم، ولسان حالها يردد «وداوني بالتي كانت هي الداء»، اقتطعت خبزة الشعب لبناء الجيش المليوني وتعبئة الترسانة العسكرية بالأسلحة الحديثة. ولعبت بيونغ يانغ، هذه المرة، ورقة الخيار العسكري النووي بحنكة ومهارة، فمن بين الدوافع والأهداف وراء الاعتراف بمواصلة العمل في مشروعها النووي، وإلى جانب ابداء حسن النية، مواجهة الضغوطات والتهديدات الأميركية في «محور الشر». ولم يزل مشروع قرار فصل يونغ بيون، حيث يقوم المشروع النووي في كوريا الشمالية، ينتظر التصويب والتنفيذ منذ ادارة الرئيس الأميركي جورج بوش الأب. يقول دون اوبيير دورفير في كتابه (الكوريتان): «لا تزال المدفعية الكورية الشمالية رابضة في مواضعها وهي على استعداد لتدمير سيئول... وخسائر الحرب، اذا ما نشبت، لا تقل عن مليوني نسمة، والقواعد الأميركية عنها ليست ببعيد».
وحب الاعتراف في خانة سياسة الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ ايل الداعية إلى «تبني نمط جديد في التخطيط والتنمية الاقتصادية حيث أكدت دول المنطقة، بما فيها كوريا الجنوبية واليابان، الدولتان الحليفتان للولايات المتحدة، على مواصلة خيار التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري مع كوريا الشمالية سبيلا إلى أمن وسلام المنطقة، على خلاف رسالة واشنطن إلى بيونغ يانغ: أما تفكيك مشروعها النووي أو مواجهة العزلة والمقاطعة السياسية والاقتصادية دوليا. وتفسر دول المنطقة موقفها الجديد بقصور وفشل سياسة المقاطعة والحصار خلال العقود الخمسة الأخيرة. وفي هذا السياق، سياق الانفتاح تجاه كوريا الشمالية، جاءت زيارة رئيس الوزراء الياباني جونيتشيرو كوزيومي التاريخية الأخيرة إلى كوريا الشمالية ومحادثات التطبيع بين البلدين. ودعم سياسة «إشراقة الشمس» التوحيدية في كوريا الجنوبية.
وراحت كوريا الشمالية تشارك في اجتماعات ومؤتمرات منظمة شعوب جنوب شرق آسيا «آسيان»، وصارت تقطف من ثمار الأخيرة الاقتصادية، إذ دخلت في مشروع بناء أطول سكة حديد في العالم تبدأ بدول جنوب شرق آسيا وتمر بشبه الجزيرة الكورية وصولا إلى الصين وروسيا. وجاءت هذه النقلة النوعية من الاحتواء إلى المصالحة والتعاون في سياسات دولة المنطقة تجاه كوريا الشمالية بموازاة تطورات واجراءات اقليمية ودولية ويأتي في مقدمتها ارتفاع مستوى العلاقات السياسية والاقتصادية بين كوريا الجنوبية والصين التي احتضنت المفاوضات الكورية ورعايتها لاتفاقية المصالحة وعدم الاعتداء بين الشطرين الشقيقين. والتعاون بين اليابان وروسيا ووساطة الأخيرة بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية وفوق هذا وذاك، تبقى الأزمة في شبه الجزيرة الكورية ازمة دولية، من قرار التقسيم في بوتسدام إلى التسلح النووي، مرورا بالخلافات الحدودية ودول المنطقة. خلاف بين كوريا واليابان حول جزر توكدو وتكيشيما التي تخضع حاليا تحت سيطرة كوريا الجنوبية فضلا عن الخلافات التاريخية بين البدين وتركة الاحتلال الياباني لشبه الجزيرة الكورية بين عامي 1910 و1945. ومن جهة الشمال تكمن خلافات حدودية مع الصين حيث يمتد شريط حدودي طويل يقطنه أكثر من مليوني كوري. ولا يكاد قطار هذه الخلافات يتوقف عند القواعد العسكرية الاميركية في كوري الجنوبية (40 قاعدة برية وبحرية وجوية ما زالت عامرة بأكثر من 40 ألف جندي أميركي).
وتلقي هذه الخلافات بظلال ثقيلة على دوافع الاعراف البعيدة في اعادة توحيد شبه الجزيرة الكورية. كانت الكوريتان قد بدأتا سباق التسلح اثر نهاية الحرب الكورية (1950 - 1953)، الحرب التي قصرت سنواتها الثلاث عن الغاء خط الثامن والثلاثين - خط التقسيم - واعلان الوحدة، ولم تفقها ان هذا الخط مثل جبهة متقدمة في جبهات «الحرب الباردة». ويشار إلى أن هذه الحرب دارت رحاها على اراضي شبه الجزيرة الكورية بين قوات أميركية وصينية ومن ثم تهديدات سوفياتية بالتدخل في حرب كونية ثالثة. وما أشبه الليلة بالبارحة، بعدما وضعت الحرب الباردة أوزارها اتفقت مصالح الدولتين الأقوى والأكبر نفوذا في المنطقة، الولايات المتحدة والصين، على الحفاظ على الوضع الراهن في شبه الجزيرة الكورية، كل يخشى أن تدور وتقع كوريا الموحدة تحت نفوذ الآخر. وتردد هذه المواقف المصالح في اجتماعات المكسيك الأخيرة بين الرئيسين الأميركي جورج بوش والصيني جيانغ زيمين واياهما الياباني والكوري الجنوبي بالاتفاق على أن حل الأزمة الكورية يكمن في التعاون والتنسيق بين الدول الأربع.
وتبقى أزمة بيونغ يانغ الاقتصادية من بين أهم الدوافع وراء اعترافها بمواصلة العمل في مشروعها النووي بقدر ما هي دعوة إلى إعادة توحيد الكوريتين. حيث كانت ولا تزال الكلفة الاقتصادية العقبة الكؤود في طريق الوحدة. ويتسع الفارق الاقتصادي بين الشمال والجنوب ويختلف باختلاف انتاجهما القومي بنسبة تصل إلى 20 إلى صالح الجنوب. وإذا كانت اعادة توحيد شبه الجزيرة الكورية تنتظر الاصلاح الاقتصادي في الشمال فإن هذا الاصلاح ينتظر بدوره الدعم والمساعدات الدولية ومن هنا يستمد اعتراف بيونغ بنشاط وفاعلية مشروعها النووي اهم دوافعه واسبابه.
كاتب عراقي مقيم في بريطانيا
العدد 64 - الجمعة 08 نوفمبر 2002م الموافق 03 رمضان 1423هـ