أطلق «قناص واشنطن» جون ألن محمد 14 طلقة اصابت كل منها شخصا. صُرع عشرة وجُرح الباقون. اما الذعر الذي اصاب سكان ولاية فيرجينيا، وخصوصا العاصمة واشنطن، يرجح ان يبقى في الذاكرة طويلا. وعلى مدار ثلاثة اسابيع، ابتدأت في 2 اكتوبر/ تشرين الاول، امتد الرعب ليشمل الولايات المتحدة كلها. ولعبت شاشات التلفزة دورا جزئيا في هذه الحال. والحال ان فعلته تطابق اوصاف الارهاب تعريفا. واصابت كل من طلقاته الوحيدة، شخصا ما في صورة عشوائية. كل من الضحايا كان يؤدي ما يعمله كل منا في كل يوم، مثل شراء الحاجيات اليومية او وضع الوقود في خزان السيارة، او التوجه الى العمل.
أيا كان الامر، لم يعد ذلك مجديا للضحايا الذين قتلهم القناص. وليس كل ذلك مجديا بالنسبة الى اكثر من ثلاثة آلاف شخص قضوا في ضربة مركز التجارة الدولي في نيويورك، كذلك بالنسبة الى 350 شخصا قتلوا في ضربة مجمع سكني حكومي في اوكلاهوما في العام 1995، ونفذها تيموثي ماكفاي، وهو اميركي من اصل ايرلندي. وعرف لاحقا انه عضو في احدى الميليشيات المسلحة في الولايات المتحدة.
الخيط المشترك بين الاعمال الثلاثة، وهي مجرد نماذج لا اكثر، هو ما يعرفه الضحايا جيدا. الفوارق لا تحصى. ثمة امر واحد نذكره لأن شاشات التلفزة الاميركية، وخصوصا «سي ان ان» و«سي ان بي سي»، شددتا عليه، وهو غياب اي دوافع سياسية او ايديولوجية لدى «قناص واشنطن». القناص افريقي - اميركي ومسلم. وفي هاتين الصفتين، هنالك مجال للكثير من الحديث. وان بعض ما اضمره الحديث عن فردانية القناص، هو انه ليس جزءا من مجموعة ما. انه ليس من الميليشيا. والحال ان الحديث عن «ميليشيا» هو امر شديد الحساسية. وبدا المسئولون الاميركيون حذرين من الربط بين القناص و«القاعدة».
هنا يمكن الاستطراد قليلا، فأول حادث عرفته الولايات المتحدة لقناص يقتل عشوائيا كان في العام 1996. حدث ذلك في ولاية تكساس، من على برج جامعتها. وعلى رغم ان القناص التكساسي عمل وحيدا، كما تقول الرواية الرسمية، فإن خبراء الاجتماع والسياسة يميلون الى الربط بين الحادث وبين الحرب الفيتنامية.
وسادت طويلا مقولة «العنف الذي يرتد الى الداخل» في الاحاديث عنه. وبالاسترجاع يصعب فصل «قناص تكساس» عما كان يعتمل في المجتمع الاميركي، وخصوصا الحرب الفيتنامية والاحتجاج عليها، وحركة تحرر المرأة، وكذلك تحرك الافارقة الاميركيين من اجل المساواة... الخ. وفي التحرك الاخير، رفعت بعض الاطراف شعار العنف، بينما اصر البعض الآخر على التحرك المدني السلمي.
والخلاصة؟ حتى الافعال الفردية والمعزولة من الممكن ان تتضمن ما هو غير فردي بالضرورة.
بين ألن وماكفاي
لنعد الى الحوادث الثلاثة التي ذُكرت سابقا. تملك واحدة منها على الاقل وجها للشبه مع افعال «قناص واشنطن»، هي متفجرة اوكلاهوما. ولنقارن بين «الفاعلين». كلاهما شارك كجندي في حرب الخليج المعروفة باسم «عاصفة الصحراء». وكلاهما عرف بالانضباط التام والقدرة العالية على انجاز المهمات الموكلة اليه كجندي فرد. وكلاهما اعطى انطباعا قويا عنه، ووصف بـ «الجندي المثالي». خرج كلاهما من الحرب مكرما بعدد من الاوسمة. نال ماكفاي ترقية ونجمة برونزية. وعرف عن جون ألن قدرته كقناص، وكهاوٍ للبنادق والصيد. واشتهر ماكفاي بولعه بالمسدسات وكواتم الصوت. كلاهما قليل الكلام ودمث ومحب لعائلته. يظهر في سلوكهما ميل الى التشدد الاخلاقي الذي يصل حد التزمت. وعُرف عن ماكفاي ميله إلى الصمت منذ المراهقة، وتفضيله الوحدة. وتبدو هذه السيرة معروفة تماما. وتذُكّر بما وصف به ايضا أيمن الظواهري واسامة بن لادن ومحمد عطا والباكستاني عمر محمد الشيخ، الذي قتل الصحافي بيرل في كراتشي، وغيرهم. هل ثمة استنتاج ما؟ ربما. ولكن لن ندخل في هذا الاستطراد.
أصرّ ماكفاي على اذاعة اعدامه على الانترنت، وسار الى موته (في العام 2001) هادئا كما قيل. ولم يبذل سوى اقل جهد في رد التهمة عنه، وكثيرا ما ردد انه يرى في نفسه «شهيدا». ترى ماذا سيقول «قناص واشنطن» عندما يزف أوان محاكمته؟
ماكفاي وصلته بالميليشيات الأميركية
قاد ماكفاي شاحنته المحملة بالمتفجرات المحلية الصنع، الى مجمع حكومي في اوكلاهوما يوم الاربعاء 19 ابريل/ نيسان 1995. وفي الوقت عينه، وضعت مجموعة من «الميليشيا الدستورية لتكساس الشمالية» نصبا غرانيتيا في مكان يعرفه الاميركيون جيدا. انه المجمع الكرملي في مدينة واكو. الحادثان وقعا في الذكرى الثانية لحريق شهير. في العام 1993، جمع المبشر والداعية السياسي - الديني ديفيد كوروش، عصبة من انصاره في ذلك المجمع. قاد كوروش تنظيما سياسيا له طابع ديني، اسمه «الفرع الداودي». ونادى بضرورة تطبيق النص الديني التوراتي على الدول الغربية المتقدمة، وخصوصا الولايات المتحدة. وضم تنظيمه ناشطين من بريطانيا واستراليا وكندا، اضافة الى الولايات المتحدة. وحاصرت قوات الامن الفيدرالي (اف بي آي» المكان. وأنذرت المجتمعين بضرورة اخلائه. ورفض كوروش. ودارت مفاوضات عقيمة. واستقدمت قوات الامن رجال دين وأساتذة في محاولة لإفحام كوروش الذي عرف بتمكنه الشديد من الكتاب المقدس. وعبثا ذهبت جهودهم. ولم يستطع احد التغلب على كوروش في المحاججة الدينية. ووصفه كثيرون بأنه يتلفظ باقتباسات من الكتاب المقدس بمثل سرعة الرشاش. والنتيجة؟
اقتحمت قوات الامن الفيدرالي المجمع الكرملي في واكو. حدث حريق هائل اثناء عملية الاقتحام. وقتل كوروش مع كل اتباعه حرقا. واعلنت الحكومة ان المحاصرين عمدوا الى نوع من الانتحار الجماعي. ولمحت الى احتمال ان يكون كوروش اقنع أتباعه بالانتحار، واعدا اياهم بـ «الخلاص». ولاحقا قيل ان الحريق اندلع خطأ من داخل المجمع.
حمّل انصاره مسئولية الحريق إلى الحكومة الفيدرالية. ويتوافق جمع من قادة الميليشيات الاميركية على هذا الرأي. ويعتبر حريق واكو من الحوادث المرجعية بالنسبة إلى ميليشيات الولايات المتحدة. والحال أن كثيرا منها تأسس بعده. وبالنسبة إلى رأي سائد في أوساط تلك الميليشيات، فإن حريق كوروش في واكو هو تجاوز بالسلاح لحدود السلطة، من قبل الحكومة الفيدرالية. وفي هذا السياق رأى كثير من المحللين في انفجار أوكلاهوما نوعا من «الرد المفهوم» على حريق واكو.
ولا تملك ميليشيات أميركا سوى عمل قليل من الحوادث المرجعية، التي تساهم في صوغ تياراتها الفكرية.
ففي 3 يونيو/حزيران من العام 1983 اشتبك رجال الشرطة مع الناشط السياسي غوردن كاهل، ما أدى إلى مصرعه. وينظر إليه على نطاق واسع باعتباره «الشهيد الأول» للميليشيات الأميركية. وعرف عنه نشاطه في الدعوة إلى الامتناع عن دفع الضرائب إلى الحكومة الفيدرالية. وفي العام 1958 تأسست «جمعية جون بيرش» التي تطالب بمحاربة الشيوعية وتقليص الحكومة الفيدرالية وازالة الرقابة المركزية عن النظام النقدي وانسحاب أميركا من الأمم المتحدة.
وتنظر مجمل الميليشيات إلى 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1993 كتاريخ مظلم. ففي ذلك اليوم وقع الرئيس بيل كلينتون «وثيقة برادي» ما أعطاها قوة القانون. وتنص على فرض فترة خمسة أيام بين شراء السلاح وتسليمه إلى الشاري. وترى الميليشيات في القانون تعارضا مع الحق المكفول في الدستور الأميركي للمواطنين بحمل السلاح، وتقلق من تجاوز أحد الحقوق الأساسية في الدستور ربما شكل مدخلا إلى تجاوز الدستور، وكل ما يكفله من حريات فردية وعامة.
اللامركزية هي الأساس
تعتمد الميليشيات أساليب لا مركزية في عملها. ويلائم ذلك خصوصا الأعضاء ذوي الميول الفردية. ويشرح المدير التنفيذي في «الاتحاد من أجل الكرامة الإنسانية» في أوريغون جوناثان موزوشي أن الميليشيات «لا تملك امتدادا وطنيا ولا قيادة مركزية معترف بها سواء من داخل تنظيماتها أو من الخارج». ويؤمن أنها حركة «تنبع من الأسفل، أي من الجذور». ويبدو غياب القيادة المركزية متعمدا وليس عبثيا. ففي العام 1987 قدم العضو السابق في عصابات «الكلوكلوكس كلان» العنصرية روبرت ميلز نظرية للعمل اسمها «الخلايا من دون قيادة». وشرح اسلوبا تنظيميا يعتمد على مجموعات مستقلة ذاتيا، ما يمكنها من منع حالات الاختراق، واعطاء متانة للعمل. شبّه ميلز الشكل التنظيمي المقترح بشبكة العنكبوت. ويشبه ذلك كثيرا فكرة التنظيم العنقودي التي اعتمدتها الحركات السياسية المسلحة مثل «توباماروس» في أميركا اللاتينية و«الجهاد الإسلامي» في مصر. وفي هذا النوع من التنظيم لا يؤدي ضرب جزء من التنظيم أو اعتقال بعض خلاياه، إلى ضرر كلي. ويشبه ذلك فصل خصلة من عنقود عنب، اذ يبقى باقي العنقود سليما وفاعلا.
وتتغذى الميليشيات عبر جهاز من المعلومات يعمل أيضا على نشر الأفكار بسهولة، وغالبا تحت ستار ملائم من مجهولي الهوية. فمثلا، كثيرا ما لجأت الميليشيات الأميركية إلى تعميم طرق صنع القنابل، كتلك التي استخدمها ماكفاي، عبر شبكة الانترنت. ومكنت محطات الراديو الصغيرة، التي تعمل بواسطة موجات «اف ام»، وكذلك الهواتف الخليوية، الميليشيات من الاتصال ببعضها، واحيانا من الدخول على موجات البوليس المحلي. وعلى سبيل المثال، احتوى احد مراكز ميليشيا ميشيغن على 15 خطا هاتفيا، وأربعة اجهزة كمبيوتر، وعدد من اجهزة الفاكس، ومطبعة حديثة، وجهاز ارسال تلفزيوني وغيرها.
وتستخدم بعض الميليشيات الاميركية شبكات التلفزيون المحلي، وحتى تلك المتصلة بالقمر الاصطناعي، لبث برامج دعاية سياسية. ولجأ بعضها الى شرائط فيديو. وينتج بعض اعضاء النخب العاملة ضمن دوائر «الوطنيين» - مثل معلق الراديو كويرنك والمحامية ليندا تومبسون ومؤسس ميليشيا مونتاناجون تروخمان - شرائط فيديو تشرح نظرياتهم عن «المؤامرة». ففي شريط اسمه «اميركا في خطر: دعوة الى السلاح» يشرح كويرنك دليله على وجود مؤامرة لفرض حكومة واحدة للعالم. ويشير الى ان 64 عضوا من «الوكالة الفيدرالية لادارة الازمات» يضطلعون بأعباء العمل عند الكوارث، ويُحتفظ بالاعضاء (3600 عضو) من اجل «ادارة النظام بعد الاستيلاء على السلطة». اما الغزو فهو «حتمي»، والخيار الوحيد هو «الاختباء وشحن السلاح».
تنصل كويرنك من اية مسئولية حيال انفجار اوكلاهوما، لكنه استغل الحدث ليعبئ اتباعه محملا الحكومة الفيدرالية مسئولية الانفجار. وعمم بواسطة مجلة الكترونية خاصة بـ «الوطنيين»، ان الهدف من التغطية الاعلامية الكثيفة لانفجار اوكلاهوما وضحاياه هو «ترهيب مواطني اميركا، ودفعهم الى التوسل للحكومة الفيدرالية بأن تأخذ حرياتهم مقابل حمايتهم من الارهاب».
وبرأي الاميركي شيب برليت، المتتبع لظاهرة شعبية اليمين في مركز الابحاث السياسية في جامعة كامبردج - ماساشوستس، ان ظاهرة الميليشيات تجعل النظام الاميركي برمته يبدو شبيها بوضع المانيا إبان حكومة فايمر، التي سبقت صعود هتلر الى سدة الحكم. ويستطرد ليشير إلى انه «في الحالين انت ترصد صعود كتلة شعبية من الطبقة الوسطى والعمالية، يملأ افرادها احساس عام بالتبرم والغضب والأسى. ولا يستطيع كلا الحزبين في المؤسسة السياسية للنظام، اي الجمهوري والديمقراطي، التعبير عنها. واذا لم يتم احتواء الغضب فإنه يتحول عنفا. والرسالة من جميع الميليشيات الاميركية هي عينها. وسواء همست هذه الميليشيات او فجّرت، فلسوف تُسمع».
وغني عن القول، ان الرئيس الاميركي الحالي (جورج بوش الابن) يعرف جيدا افكار الميليشيات. وأتى الى الرئاسة بفضل تأييد اليمين له. وتضم ادارته بعضا من الرموز التي تستقي افكارها من يمين اليمين في الحزب الجمهوري، اي انها على المسافة الاقرب إلى الافكار المشتطة التي تسيطر على ذهنية الميليشيات.
ترى كيف ستتفاعل قضية «قناص واشنطن» في المستويات الاعلى من الادارة، خصوصا في ذهن مسئولين مثل ديك تشيني، ودونالد رامسفيلد، وكوندوليزا رايس، وريتشارد بيرل وبول ولفوفيتز وغيرهم؟ كيف ستتفاعل مع القرار حول اللجوء الى الامم المتحدة او عدمه في صنع القرار بصدد ضرب العراق، على سبيل المثال؟
وأيّا كانت الحال، فالأرجح ان قضية «قناص واشنطن» اعادت طرح السؤال عن العنف في الداخل الاميركي. ويحتاج الامر الى قراءة اخرى عن سياق هذا الداخل الحالي، في سنة ظهر فيها كل العنف وكأنه آتٍ من «الخارج»، بدءا من الطائرات التي صدمت مركز التجارة، ومرورا بجون ريد الذي جاء من بريطانيا وفشل في تفجير طائرة بقنبلة مخبأة في حذائه، والانثراكس الذي ما زال سره خبيئا، والغواتيمالي الذي جاء الى اميركا ليفجر «قنبلة قذرة» فيها مواد مشعة... الخ. كل ذلك العنف بدا، سواء عن حق ام لا، وكأنه عنف من الخارج. اما القناص فعنفه داخلي، ينبش في الذاكرة احداثا دامية كانت الميليشيات الاميركية هي بؤرة الاهتمام فيها. إلى أين يقود كل ذلك؟ لننظر ولنرَ
العدد 64 - الجمعة 08 نوفمبر 2002م الموافق 03 رمضان 1423هـ