انتهت الدورة الأولى من الانتخابات البحرينية، وستنتهي قريبا الدورة الثانية، والنتيجة معروفة، انتهى المهم وبدأ الأهم.
لا شك في أن البعض يحلم بمستقبل زاهر في أسرع وقت ممكن، وهذا غير ممكن، فالحلم بالواقع غير الواقع. فهناك مسافة لابد من اجتيازها، فالمواطن دائما يريد الكثير بينما الإمكانات تقرر حدود تلبية الحاجات وهي كثيرة وتطول أكثر من قطاع.
إلا أن الموضوع الأساس هو المصالحة الوطنية والتوافق الأهلي على الدستور الذي يضمن في النهاية استمرار المسيرة. والمصالحة لا تعني بالتأكيد إلغاء الأكثرية (53 في المئة) الأقلية. ولا مقاطعة الأقلية الأكثرية. المصالحة تعني إنتاج تسوية تاريخية خاصة بالمملكة. فلكل تسوية شروطها الذاتية والموضوعية وأساسها يكون لقاء الدولة والمجتمع على وحدة المصير والهدف.
في مطلع القرن التاسع عشر كتب أستاذ كارل ماركس الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل سلسلة بحوث خطيرة عن «تاريخ الفلسفة» و«فلسفة التاريخ». وأهم ما قاله عن الشرق إنه بداية الحضارة ومطلعها وان الغرب هو نهايتها. ودائما تكون النهاية أنضج من البداية. فالمرحلة الأولى طفولية والأخيرة هي الشيخوخة إذ تكون الإنسانية اكتسبت تجربتها وانتقلت إلى مرحلة العطاء.
ليس هنا الموضوع، الموضوع أن هيغل استخدم مصطلحاته العنصرية الكريهة ضد الشرق متحدثا عن فشل اللقاء بين الدولة والمجتمع محيلا المسألة إلى نزوع الدولة نحو التفرد والاستبداد وتكتل المجتمع على بعضه ورفضه المساومة. ودائما كانت تنتهي المشكلة، برأي هيغل، إلى المواجهة والعنف وانهيار المشترك.
هذا لم يحصل في الغرب، والكلام لهيغل، لأن الحضارة الغربية (الناضجة) لجأت إلى التسوية لحل التناقضات واحتواء العنف الداخلي. ويستنتج هيغل، بلغته العنصرية المتعالية، ان الشرق لا يملك العقل التركيبي فهو يفضل تبسيط الأمور واللجوء إلى الحل السهل. بينما الغرب يملك العقل التركيبي ويلجأ دائما إلى التوفيق بين المتناقضات، ويعيد في كل فترة زمنية إنتاج «تسوية تاريخية» تجمع التناقضات وتوحدها للوصول إلى نتيجة أرقى. وكلما ارتقى الإنسان تطورت معه التناقضات وتقدمت النتائج.
ما ينقص الشرق، كما ذكر هيغل، هو العقل «التسووي» أو الوسط وعدم الانحياز إلى نقيض ضد الآخر. فالوسط والوسطية برأي هيغل تحتاج إلى عقل مركب يستطيع الإنسان العاقل من خلال قراءة الواقع اختيار منهج توفيقي يوفق بين التناقضات. والتوفيق (التركيب التسووي) هو التطور بعينه ومن دونه تقع الواقعة وتتدمر الوحدة التاريخية.
الوسط برأي هيغل ليست فكرة محايدة تنسحب من المواجهة بل هي أساسا فكرة هجومية وصعبة لأنها تقوم على مبدأ احتواء التناقضات والتسوية بينها لتعيد إنتاج معادلة متقدمة على الواقع الراهن.
هذا جوهر ما قاله هيغل عن فكرة التسوية (الوسطية) بين التناقضات، وهي أحيانا تصل إلى التبسيط إلا أن خلاصتها هي أنها نجحت تاريخيا في تقريب الأعلى من الأدنى (المثال والواقع) وصولا إلى التوحد بين الدولة والمجتمع. بينما الشرق، برأي هيغل، استمر في حال الصراع الدائم، الأمر الذي عطّل إمكانات التسوية بين المثال والواقع وبقيت الدولة منفردة بذاتها ومستقلة عن الجماعة (أهلها) مقابل الجماعة (الأهل) التي انكفأت على ذاتها تعيد إنتاج مثالها من دون أن يتحقق تاريخيا (واقعيا).
الخلاصة نحن العرب، في البحرين وخارجها، بحاجة إلى عقلية تسووية تعيد إنتاج المثال من الأرض وتعيد إنتاج الواقع من المثال حتى نصل إلى تفكير واقعي (تسووي) يعيد تركيب المستقبل في صيغة تلبي حاجات مختلف الأطراف.
البحرين تمر الآن في تجربة. ومثل كل تجربة هناك المر وهناك الحلو... والتسوية هي تكرار المحاولة لإنتاج معادلة مركبة بين مر التجربة وحلوها.
وليد نويهض
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 50 - الجمعة 25 أكتوبر 2002م الموافق 18 شعبان 1423هـ