استغلت الادارة الاميركية نجاح غزوها لافغانستان، فوجهت سهامها نحو بقية الانظمة المعارضة، وبطبيعة الحال تصدر النظام العراقي الدول المارقة على الشرعية الدولية أو قل الشرعية الاميركية. فأطلق المسئولون الاميركيون واحدا تلو الآخر تهديداتهم باسقاط نظام صدام ان لم يمتثل لقرارات الامم المتحدة القاضية بعودة المفتشين الذين خرجوا من العراق في العام 1998 بعد اتهام نظام بغداد لهم بالتجسس لصالح الولايات المتحدة واسرائيل. وكان لزاما قبل اعلان الحرب على صدام أن يصدر البيت الابيض قائمة من الاتهامات تعطي الذريعة لاجتياح العراق، واسقاط النظام، على غرار ما حصل في افغانستان.
ظل الرئيس العراقي يماطل في قراره بشأن السماح للمفتشين بالعودة، ومع قرع بوش طبول الحرب، أصدر بيان بث عبر الفضائيات بعودة غير مشروطة لبعثة الامم المتحدة. وبعد ان كانت الكرة في ملعب العراق، رماها في اللحظة الاخيرة في ملعب الخصم، ليثبت العالم انه نظام ينصاع لقرارات الامم المتحدة، بينما تتجاوز اميركا تلك القرارات.
هذا لم يثن الادارة الاميركية عن السعي وراء مخططاتها، فأرسلت البوارج الحربية والناقلات البحرية إلى مياه الخليج، وجاهدت في الحصول على قرار من مجلس النواب يسمح لها بخوض المعركة، وهذا ما حصل أخيرا عندما صوت مجلس النواب بأكثرية ساحقة على تخويل بوش قرار الحرب على العراق.
وما اشبه اليوم بالامس، فقد تولد عن التهديدات الاميركية المتكررة للعراق، اجتماع علمائي يشابه في تحضيره وبيانه ذاك الذي عقد في افغانستان، ولكن هذه المرة في العراق. اكثر من 450 عالما عراقيا من المذهبين السني والشيعي يعلنون بيان «المؤتمر الاسلامي الشعبي» الذي اتفقوا فيه على ضرورة محاربة القوات الاميركية ان قررت غزو العراق، بل وتشددوا ايضا في اعلان الجهاد ضدها، وهذه المرة ايضا كان الجهاد «فرض عين» يتحتم على كل من تتوافر فيه شروط الجهاد ان يبادر إليه بماله أو بنفسه.
هذا البيان جاء متأخرا بعض الشيء عن بيان كثير من المراجع والمشايخ العظام الذين حرموا التعاون مع الاميركيين كفتوى السيد السيستاني، والسيد فضل الله، والشيخ القرضاوي. والغريب ان فتوى علماء العراق شددت على الجهاد الذي يؤثم تاركه في حين أن فتوى بقية العلماء (السيستاني، فضل الله، القرضاوي) لم تشر من قريب ولا بعيد إلى اعلان الجهاد ضد القوات الغازية، واكتفت بكشف مؤامرة العدو، وحض المسلمين على الدفاع عن العراق.
قرأنا «ادارة الشر» و «فرعون العصر» في البيان الصادر في بغداد. فالبيان صدر بايعاز من النظام، وما صورة صدام التي اعتلت الحائط وظهرت على شاشات التلفاز اثناء القاء الشيخ الفتوى، إلا دليل على ذلك.
بهذا البيان الذي كتب بلغة الدبلوماسية العراقية تجاه السياسة الاميركية، يخرج صدام ورقته الاخيرة، بعد ان احرق كل الاوراق التي كان يستدر بها عطف الجماهير التي وثقت به سابقا.
لن ينطلي هذا الخطاب على الجماهير العربية، خصوصا بعد ان تخلت الولايات المتحدة وبعض الانظمة العربية عن صدام، ومصلحتهم الآن تقضي باسقاط النظام العراقي، وتقديم جلاوزته إلى المحاكمة، وقيام نظام أمرو - عراقي جديد يكتب السياسة الخليجية بالدبلوماسية لا الدم
العدد 47 - الثلثاء 22 أكتوبر 2002م الموافق 15 شعبان 1423هـ