لم يبق الوقت الكثير لتمتحن البحرين نفسها في إعادة تجربة الديمقراطية وتجديدها لتتوافق مع المستجدات الدولية والاقليمية ونشوء ظروف أملت على الدولة تطوير نفسها حتى تستقبل الفترة المقبلة بالمزيد من الثبات والثقة بالنفس والمواطن.
البحرين تمر الآن في الوقت الضائع في فترة استقرت آراء فرقاء السياسة على مواقف تبدو للمراقب شبه نهائية. والكلام عن تعديل الوجهة بات متأخرا إلا ان الوقت لم يمر لإعادة قراءة التجربة في ضوء محيطها. فالمقارنة مع المحيط القريب وأيضا البعيد ضرورة (ولو رمزية) لتحديد الاتجاه وتصويب بعض التشوش الذي عطل رؤية تيارات عاقلة ومؤيدة ضمنا للمشروع الإصلاحي.
في المقارنة القريبة هناك الكويت. فالكويت تعتبر اليوم رائدة الدول الخليجية العربية في مضمار التجربة الديمقراطية، وهي على ما يشوبها من اهتزاز دائم حافظت على موقعها وتواصلت زمنيا مع انقطاعات قصيرة كان يقفل البرلمان خلالها ثم يعاد فتحه. وبين الغلق والفتح تكرست فكرة الديمقراطية في طبعتها الكويتية وباتت من المكاسب التي لا يستغنى عنها حتى عند الأطراف التي لا تؤمن بالفكرة أصلا. وفي المقارنة البعيدة هناك لبنان. فلبنان تقليديا يعتبر أول دولة ديمقراطية عربية. فأهل البلاد تعرفوا على المجالس منذ القرن التاسع عشر.
وقامت البرلمانية اللبنانية منذ عشرينات القرن الماضي على فكرة الديمقراطية التوافقية وكرست عرفيا رئاسة الدولة للموارنة، ورئاسة البرلمان للشيعة، ورئاسة الحكومة للسنة، وقيادة الجيش للموارنة، ووزارة الدفاع للدروز، ووزارة الخارجية للروم الارثوذكس إلى آخره من التوزيعات.
استمر هذا التقسيم بعد الاستقلال عن فرنسا. رحلت فرنسا وبقي نظامها الطائفي - الديمقراطي. وجرت محاولات كثيرة لتحديث النظام الانتخابي، إلا انها لم تخرق المعادلة الأولى. فالمعادلة كانت تتجدد بعد كل خلاف أو انفجار. بل تحولت الأعراف إلى مواد دستورية يتفق عليها ثم يجدد الاتفاق.
حتى بعد اندلاع الحروب الأهلية - الاقليمية في لبنان التي امتدت من 1975 إلى 1989 (تاريخ توقيع اتفاق الطائف في السعودية) لم تنجح الدولة في تجاوز أو تجاهل أو إلغاء تلك التقسيمات الطائفية - الجغرافية. فكل طائفة لها حصتها (وظائف، مناصب) ولكل طائفة جغرافيتها (مناطق نفوذ للزعماء المحليين).
مع ذلك يرى اللبنانيون، على رغم كل تلك السلبيات والثغرات، ان التوافق الدستوري هو الأفضل وأن الاتفاقات والاختلافات يجب ان تتم من خلال الدستور. فالأخير هو ضمانة البلاد والديمقراطية هي الشاهد على مدى نجاح التجربة... وغير ذلك فهناك الحروب والتذابح والتقاتل.
التجارب المرة أسهمت في تعقيل الطموحات ووضعت كل اللبنانيين أمام واقع معقد من الصعب تفكيكه من دون وفاق وتوافق. وعلى رغم غضب بعض «الحداثيين» واعتراض بعض «العلمانيين» كان الخيار دائما للواقعية على حساب الايديولوجية. وفي حال عقدنا مقارنة (نصوصية) بين النظام الانتخابي في البحرين والنظام المعمول به في لبنان، نجد ان الأول أفضل من الثاني. في البحرين مثلا المقاعد ليست موزعة طائفيا ومذهبيا، وفي لبنان شرط الترشح هو الانتماء الطائفي - المذهبي لهذا المقعد أو ذاك، ولا يجوز لابن الدائرة ان يترشح في دائرته إلا إذا توافق مذهبه مع مذهب المقعد. في البحرين النظام يوزع المقاعد على المحافظات وضمن تراتب مناطقي معتمدا الدائرة الصغيرة (لكل دائرة مقعدها)، في لبنان دمجت الجغرافيا (المناطق) بالطوائف واعتمدت الدائرة الكبيرة أو المتوسطة، الأمر الذي جعل من تحالفات الطوائف نقطة ثقل لتحالفات اللائحة الانتخابية. والأخيرة تخضع لثقل الطائفة في هذه المحافظة والمذهب في تلك. فهناك مثلا بعض النواب المسيحيين فازوا على لائحة حزب الله في البقاع الشمالي أو لائحة وليد جنبلاط في الشوفان. وهناك بعض النواب المسلمين فازوا على لائحة الكتائب أو القوات اللبنانية في جبيل وغيرها من المناطق الشمالية.
هذا التوزيع جعل المسلم القوي يشعر بالغبن حين يجد المسلم الضعيف في البرلمان. وكذلك جعل المسيحي القوي يرتاب من المسيحي الضعيف الذي دخل البرلمان بقوة حزب الله أو وليد جنبلاط. هذه الأمور ليست موجودة في البحرين. وهي دلالة على وجود تشريع أكثر عصرية من ذاك السائد في لبنان.
إلا ان المسألة في النهاية ليست مقارنة في الوقت الضائع. فالمهم هو التوافق الدستوري. والدستور هو أصل الدولة المعاصرة وبعدها تأتي صناديق الاقتراع لتعكس موازين القوى وتثبت المسار الديمقراطي. فالمسألة في نهاية الأمر نسبية (واقعية - زمنية) والنصوص هي المواد القانونية التي يمكن تعديلها أو تطويرها. وهذا هو معيار نجاح المشروع الإصلاحي
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 47 - الثلثاء 22 أكتوبر 2002م الموافق 15 شعبان 1423هـ