أذكر أنني قد كتبت قبل عامين تحديدا مقالا في «الوسط» عنونته بـ «مقبول شكلا مرفوض ضمنا!» وتطرّقت من خلاله إلى العذر الذي ساقته اللجنة الإشر
افية للانتخابات لرفض ترشيح المناضل الوطني عبدالرحمن النعيمي نفسه للانتخابات النيابية 2006م، وذلك في الدائرة السابعة بمحافظة المحرّق، وقد كان العذر الذي ساقته اللجنة حينها «مقبول شكلا مرفوض ضمنا» وقد علّقت على هذه العبارة في حينها بحسب فهمي الخاص لها على أنها قد تعني أيضا «مقبول شكلا في أنْ تشارك المعارضة الوطنية في الانتخابات، وتدخل أفواجا أفواجا من أوسع الأبواب، ولكنه وللخيبة مرفوض ضمنا أنْ تكون لها الحرية في أنْ تحظى بالمنافسة الشريفة، والرعاية المساوية والنزيهة أسوة بسائر القوى والأطياف السياسية الأخرى».
ولعلّي الآنَ وعبر هذا المقال قد أعيد قراءة وتأويل عبارة «مقبول شكلا مرفوض ضمنا» فهي عبارة ذات معانٍ ودلالات وآفاق أكثر اتساعا بكثير من زاوية حصرها في مربع مشاركة المعارضة الوطنية في انتخابات 2006، فهذه العبارة المتناقضة والمستفزة هي ديدن ودأب العديد من رفاقك وزملائك وأصدقائك والمحسوبين عليك من قيادات وكوادر المعارضة الوطنية منها والطائفية، وذلك قبل أنْ تكون على لسان خصومك وأعدائك على حد سواء، وهم الكوادر التي أصيبت هي الأخرى بداء النفاق واللهث وراء المصلحة والمنفعة الخاصة، والسعي إلى البروز والنفخ في الذات ولو كانت الأخيرة خاوية ومثقوبة، كما وزادت حمية أعراض عصابها الطائفي؛ لنشهد يساريين وتقدميين طائفيين لأوّل مرة في التاريخ، وهم يتحدّثون بشعارات وطنية برّاقة إلاّ أنّها لا تلبث إلا وتجأر بأجندة المحاصصة الطائفية ولو على ما يرمى من زبل وتبن، وأمثال هؤلاء كما سبق وحدثتنا يا أخانا ووالدنا وحبيبنا وأستاذنا عنهم من قبل في اللقاءات الأخيرة معك هم أخطر أنواع الطائفيين فإنْ كانوا هم لا يعملون على الجهر والإثارة والتهويش والزعاق الطائفي الذي سرعان ما يسفه ويبتذل كما حال بعض «نوّاب الشعب» إلا أنهم يعملون بصمت ويشرعنون للمنطق الطائفي، وللحراك المطلبي الطائفي في التعاطي مع مختلف القضايا المجتمعية والسياسية، ويتمددون بصمت مشوش كما لو أنهم ورم خبيث في مخ الوطن، ومع كل ذلك هم يمجّدون عبدالرحمن على اعتبار أنّه «المناضل الوطني الكبير» وهم مع ذلك رعاع طائفيون منتنون!
أذكر أنني وفي الأيام الأولى التي حظيت فيها بشرف التعرّف عليك، والشكر هنا جزيلا وموفورا ومغدقا للزميل محمد العثمان الذي حمل لي مثل هذا الشرف ومازلت ممتنا له ، كنت قد اعتبرت جميع سني عمري السابقة التي لم أتعرف عليك خلالها هباء منثورا «لماذا لم أعرفك إلا متأخرا؟!» وقد شاطرني مثل هذه الأحاسيس والهواجس الكثير من الأصدقاء الذين تعرفوا عليك منذ سنون معدودة فقط ولكنهم ومثل كاتب هذا المقال لكأنهم يعرفون مدرستك للأخلاق والقيم والعزّة والكرامة الوطنية منذ مئات السنين، وتلك هي الخصائص المميزة لعبير عطرك النضالي الأسمى الذي لا تبخل به على أحد بما فيهم أولئك الأطفال الذين يحملوا على صدورهم صورتك وسط حصار المآذن والعسس وحمّالات الحطب وأصوات العساكر المجيّشة ليزلزلوا قلالي والمحرّق من أولها إلى آخرها بقوّة الممنوع وضعف المانع!
فعلى الرغم من نجاسة وعنف حملات التوتير الطائفي والتخويف والتهديد والترهيب بالمحاسبة والمعاقبة والمحاربة في الرزق غير المسبوقة التي استخدمت رسميا وما بعد الدوام الرسمي ضدك وضد مناصريك ومحبيّك من شيوخ فكهول فشباب ففتيان مراهقين فأطفال، إلا أنّ تلك الأساليب الوضيعة والمثخنة بما تثيره من شفقة لم تحرك شعرة واحدة لديهم جميعا لديهم وهم من اعتصم معك بقوّة الحق الذي لا يريدون له أن يصل ومع ذلك ظلت ابتسامتك عالية رغم خيبتنا وإحباطنا مما بلغت به الأوضاع في بلادنا إليه من حضيض، وليس لسبب لثباتك وشموخك وقوّتك سوى أنك تعرف النتيجة سلفا وقبلها قلت لنا: «إنهم غير جديين» وأضفت «إن مكسبنا الكبير الذي حصلنا عليه في تلك المعركة والتجربة الكبرى هو محبّة الناس ووفائهم»، ولا أظن أن بعض رفاقك بقادرين على أنْ يحشدوا تلك الحشود ويثبتوها في معركة كهذه ليس لسبب سوى أنك كنت تزرع الأمل وهم يزرعوا اليأس!
لعلي أذكر قبلها انزعاجك في حينها من تصريحات منسوبة للشيخ القرضاوي وقد انتقد فيها «حملات التشيّع» وما أثارته حينها من عظيم اضطراب والحمدلله أنك لم تشهد ما آل إليه الوضع حاليا من عظيم اضطراب واحتقان بسبب تكرار تلك التصريحات والأقوال غير المسئولة والتي أتت في سياق زمني يخدم المصلحة الأميركية بامتياز، ويتخلّى عن جميع الأولويات والموازنات والضرورات الفقهية التي عُرف بها القرضاوي، كما أذكر وفي اللقاءات الأخيرة التي جرت بيني وبينك وكم كنت حينها مُنزعجا ومستاء من الدور المخرّب والمدمر للقيادات والمراجع الدينية عمائم ولحى وخصوصا تلك التي تدمن الغطرسة والعجرفة ويزعم أنها تلوذ بالشعب رغم أنّها لا تعطيه اعتبارا فلم يسبق لها أنْ زارت مجلسا عاما والتي لا يمكن أن تقارن أبدا بزعامة الراحل الشيخ عبدالأمير الجمري «رحمه الله» منهجا وعقلا وسلوكا، فالقيادة والزعامة قبل أنْ تكون مدرسة هي روح وملكة فطرية وهبة وخلق، وليس كلّ مَنْ لبس عمامة وعباءة أو أطلق لحية وارتدى بشتا بقائد، فشتان بين مَنْ يتوسّد طمأنينة وحب ووفاء شعبه ولا يؤاخذ جهل وقلة حيلة هذا الشعب ويتخذ له أكثر من عذر، وبين مَنْ يكفروا ويخونوا ويلعنوا ليولوا الأدبار وينسحبوا إلى الخارج ويتجاهلوا أحوال شعبهم مثلما فعلوا ويفعلوا مع اشتداد المحن ومع ذلك يظلوا قادة في زمن الخيبات والمآسي وتظل أنت يا شمعة البلاد مقبول شكلا ومرفوض ضمنا!
وإن كانت «الوسط» قد أثلجت صدورنا وزادتنا أملا وانتعاشا حينما نشرت صفحات من مذكراتك وهي الأمانة الوطنية والتاريخية التي أديتها خير تأدية لشعبك إلاّ أنه استوقفني في حينها ما كنت فيها وما كتبته، وهو ما دلّني على عيبك الوحيد ألا وهو أنك كنت ولا تزال تحسن الظن بالجميع وتعتقد الخير في كلّ الناس رغم أن هنالك مَنْ لا يستحق ما منحته من ثقة ومعزّة؛ لكونه ليس همّه سوى الوصول إلى الكرسي وتوظيف الأقارب، وأبناء الفئة والطائفة من بعدها، ليقذف بالأجندة الوطنية وبثقتك الغالية خارجا حالما يستتب له الأمر في شهر العسل البرلماني!
فهل سيحترم البعض من المحسوب على «التيار الإسلامي» والذي يتحدّث بأكثر من وجه ولسان مع الدولة والحكومة وأقطاب السلطة من جهة ومع قوى المعارضة الوطنية والطائفية من جهة أخرى؟! أم سيقذفون بها في محرقة «الموت للعلمانية»؟!
ما أودّ أن أذكره لك بأنّ البعض من السفهاء الطائفيين من غلمان الأحزاب والزمر «الإسلامية» قد استنكر عليّ في حينها حبّي لك وتسطيري المقالات في بيان فضلك ونضالك على الوطن والشعب فقال لي: «لماذا تحب وتدعم عبدالرحمن النعيمي؟! هذيه إلاّ واحد أيعزي»، ولكنه لو رأى حالك الآَن ومحبّة الناس تطوّقك من كل حدَب وصوب في سريرك فأنت الذي يقرأ عليه ويدعو له ويذكره بالخير المعمم، والسلفي، والصوفي، والعلماني، والبعثي، والمسيحي، والشيوعي وغيرهم من خلق الله لكأنما أنت مصداق للحديث الشريف «إذا أحب الله عبدا حبب فيه الناس»، في حين أنّ هذا الغلام السفيه قد لا يحظى بعشر تلك المحبّة التي تنثال على سريرك وغيبوبتك ومحنتك؛ لتكون لك بردا وسلاما، ولا شيء أقسى في العالم من فقدان المحبّة وتلاشيها ومن فقدان الحنان والتربية الذي لربما كنت لا تبخل بها عليه!
لو سألتني عن حالنا فلن أخفي عليك الإجابة أبدا وسأصارحك كما تحب يا أبتاه دوما، فحالنا هو من حال غيبوبتك، وبلواك تلك، فلكأنما هنالك حاجز بلوري رقيق ولكنه كاتم وعازل يفصل ما بين الوعي والتجربة، وما بين الخاص والعام، وما بين الهذيان الطائفي والحمى الوطنية، وقبلهم جميعا ما بين الباطل والحقيقة، ومثل ذلك الحاجز الذي يشعرنا حال تحريكك أناملك وعينيك بأنك مازلت كما كنت تستوعبنا وهنالك ما تود أنْ توصله لنا، ولكن هنالك ما يمنعك أو ما يمنعنا من استيعاب الرسالة، وهنالك الكثير من رفاقك وأصدقائك قبل خصومك وأعدائك ممن يقبل جميع تلك الأشياء المفصولة والمحجوزة باللامرئي واللامتناهي واللاقابل للتأويل شكلا، ويرفضها مع ذلك خلاصة ومضمونا وروحا!
ولعله لم يبق مما نذكره سوى كلمتك المؤثرة تلك التي قلتها في حشد من أنصارك ومحبيك المحتشدين في ساحة بالمحرّق من كل حدَب وصوب والمتداولة عبر شبكة الإنترنت* حينما دعوت إلى برلمان شعبي وإلى لقاءات دورية ومستمرة مع المواطنين بعد الانتخابات وإلى مزيد من التواصل والعمل المشترك وهو ما نفتقده حاليا بشدة!*
كما نقل لنا المقرّبون منك ما كنت عازما في الأيام الأخيرة قبل سفرك ومرضك على تولي دور التنسيق المنظم بين أهل الدائرة الانتخابية وعموم المواطنين مع نائب دائرتكم عيسى أبو الفتح، ومثل ذلك ليس بغريب عنك يا من كان همّك الأوّل هو خدمة الشعب من عيونك واحتضانه حتى وإن لم يصل ولم يجلس على كرسي، لتعوض عذابات المنفى والنضال البالغة ثلاثة عقود ونيف التي حجبت بينك وبين شعبك ووطنك، فمشكلتك أنك أنكرت ذاتك لصالح الآخرين، وتواضعت أكثر من اللازم في زمن لئيم يحسب فيه التواضع وضاعة!
ومع كل ذلك قبل بعض الرفاق كلامك شكلا ورفضوه في مسعاهم ضمنا!
فأنت يا أخي، ويا والدي، ويا حبيبي، لم تكن تطمح ليكون حالك كحال بعض البلديين الذين حوّلوا مسيرتهم البلدية بين الأسفار والسياحة في أرض الله الواسعة بعيدا عن أرض الخراب والضيق إلى «حول العالم في 80 يوما» بحسب الرواية الشهيرة للروائي الفرنسي جول فيرن، كما أنك لست كالنوّاب الذين يلقون الكلام والوعود على العواهن ممن أفلحوا في مغادرة خرابات دوائرهم المنكوبة إلى قصور مشيّدة في الأقاصي بين ليلة وضحاها دون أنْ يطبّقوا وعودهم لناخبيهم، ولا يخافون في الله لومة لائم!
وفي غمرة هذا البلاء العظيم ليس لنا من معين ومثبت وميسّر للأمور من بعد الله تعالى سوى حرمكم المصون أم أمل نبراس العزّة والكرامة والسنديانة الشامخة والصامدة إلى حد أذهلنا وألهمنا الصبر والتوكّل على الله تعالى.
واسمح لي بعد هذه النقطة الملحة أنْ أهنئك بحلول عيد الفطر المبارك، فكلّ عام وأنت بخير وعساك من عواده وكلّ عام ونحن نستعيد بك عيدنا المفقود وبهجته الموؤدة بغيابك المؤقت بإذن الله
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 2215 - الإثنين 29 سبتمبر 2008م الموافق 28 رمضان 1429هـ