ينظر للاستبداد أو القمع في منطقتنا العربية دائما بوصفه من الخصائص الطبيعية للسلطة أو النظام السياسي، من دون السؤال مع ذلك عن منشئه الاصلي وعن علاقة المجتمع وقيمه السائدة وموروثاته الثقافية والاجتماعية بذلك سلبا و ايجابا.
إن من شأن هذه النظرة أن تجعلنا أمام واقعين لا علاقة لكل منهما بالآخر، فهنا قلة تمارس الاستبداد وتحترفه لخدمة الإبقاء على مواقعها ومصالحها، وهناك كثرة متسامحة هي ضحية لهذا الاستبداد الذي هو ليس من طبيعتها أو قيمها. ومن ثم تصبح النتيجة المنطقية والمطلوبة في الوقت نفسه، أنه بمجرد انتزاع قدرة القلة على الاستبداد أو منعها من ممارسته، فإنه سوف ينتهي، ليعود التسامح والحرية فارشين ظلالهما على الجميع.
وكما نرى فأن مثل هذه الفكرة مغرية وجذابة. ولكن هل هذا هو ما يحدث على أرض الواقع؟ هل أن القضاء على الاستبداد عند شريحة أو فئة معينة يقضي على الاستبداد في المجتمع؟
الواقع يقول إن الاستبداد لا ينتهي مثلا بمجرد تغيير السلطة الحاكمة مثلا أو إجبارها على التخلي عنه. فغالبا ما يلجأ الحكام الجدد أنفسم إلى ممارسة الاستبداد الذي كانو للتو يشكون منه ويدعون لمحاربته، وفي الدول العربية والاسلامية الكثير من هذه النماذج.
وفي هذه النماذج فأن العقاب لا يطال فحسب المعارضين أو (الأباعد)، لكنه يشمل أيضا رفاق الدرب وحلفاء الأمس القريب، ممن قاوموا الاستبداد القديم، فإذا بهم يقعون ضحية للاستبداد الجديد الذي هو من صنع أيديهم.
ولتفسير ذلك أو تحليله لا تكفي العودة إلى النظريات القديمة حول استبداد القلة وخضوع الكثرة، فهي لا تقدم لنا تفسيرا كافيا.
إن الاستبداد ظاهرة متعددة الأبعاد. كونها مرتبطة بالسلطة لا يعني حصرها في الجانب السياسي فحسب. ينبغي النظرر إلى السلطة هنا بمعناها الواسع، والتي من الممكن ان تشمل مؤسسات الحكم والعمل والتعليم والمنزل والعمل السياسي أو الاهلي... الخ.
ففي جميع هذه المؤسسات توجد سلطة، متمثلة في شخص أو مجموعة قليلة من الاشخاص، تسيطر بهذا الشكل أو ذاك، على باقي المجموع، وبالتالي يمكن ان يوجد الاستبداد في أي منها وإن اختلفت درجاته. كما أن تأثيراته قد تتداخل بين هذه المؤسسات.
إن الانسان الذي عانى من الاستبداد في المنزل أو المدرسة على سبيل المثال، قد يشيع هو نفسه هذا السلوك في التعامل مع من يصادفهم في أي من مواقع الحياة حوله. والانسان الذي يعاني من استبداد حكومته قد ينقل (من حيث لا يدري) هذا الاستبداد إلى محيطه الصغير في المنزل أو العمل.
والمسألة هنا ليست مرتبطة بما إذا كنت أريد أن اصبح مستبدا أو لا. إن هذا السلوك غالبا ما يحدث بصورة لا واعية، ويترجم نفسه على هيئة أفعال وتصرفات وآراء تصب كلها في مجرى الاستبداد الواسع والعميق.
ولو أنك سألت شخصا مستبدا عن سبب استبداده، لنفى عن نفسه هذه الصفة بشدة، ولأجابك على الفور مستغربا: إنني لا أرى أي استبداد؟
إن مثل هذا الشخص قد لا يعرف أنه مستبد، وهو يسمع عن الاستبداد كما يسمع باقي الناس، وربما يشاركهم في ذمه وذكر مثالبه، على رغم أنه قد يمارسه في كل لحظه من لحظات حياته.
والمشكلة ليست في أن الناس قد يختلفون في طبيعة الاستبداد أو اسبابه أو ماذا يطلقون عليه. فمن السهل تشخيص الاستبداد والاستدلال عليه، على الأقل في أبرز حالاته شيوعا ووضوحا. إن المشكلة هي في أن السلوك هو كما أسلفنا بطبيعته سلوكا غير واع. فالإنسان يقوم به تحت تأثير مجموعة متنوعة من العوامل والدوافع غير الظاهرة، التي تكونت لديه بفعل احتكاكه الطويل والمستمر مع البيئة.
إن الطريقة التي يلجأ اليها معظم الآباء في مجتمعاتنا مثلا لتربية أبنائهم وبناتهم، والتي تقوم في جورها على مفهوم الوصاية التامة، تحمل في طياتها مضمونا استبداديا غير أن الآباء قد لا يعرفون وقد لا يهتمون كثيرا، إن كان ما يفعلونه يسمى استبدادا، أم تربية صالحة. بالنسبة إليهم فإن هذه هي الطريقة الصحيحة والمتوارثة والمتعارف عليها لضبط من يقعون تحت مسئوليتهم.
انهم يتصرفون هنا من وحي الحاجة للتناغم والانسجام مع البيئة المحيطة والتي ترى بدورها أن هذه هي أفضل وسيلة للمحافظة على الأبناء من الانحراف والضياع.
إن المسألة الجوهرية هنا هي أن انتقال الاستبداد من جيل لآخر، أو وقوعه من مستوى على مستوى آخر، إنما تتم في اطار من التوافق الاجتماعي المبدئي. وخلال هذه العملية لا ينظر إلى الاستبداد بوصفه عملا شائنا ومرفوضا من حيث المبدأ، أيا كانت الطريقة التي يمارس بها أو التسمية التي ينضوي تحتها أو الجهة التي تمارس أو يمارس ضدها، وإنما انطلاقا من قرب أو بعد الموقع الذي يحتله كل إنسان منا في سلم هذه العملية.
بمعنى أن الاستبداد قد يصبح عملا جيدا وضروريا، من جانب من يمارسونه، لكنه يتحول إلى اعتداء وعدوان من جانب الذين يمارس ضدهم. والملفت انه لو تبدلت مواقع الطرفين واصبح كل منهما في مكان الآخر لما تغير الحكم القيمي في الحالتين.
ويمكن أن نرى ذلك واضحا في المواقف السياسية، إذ يتم أحيانا تشجيع قتل معارض في دولة عربية، بينما يدان قتل معارض آخر في دولة أخرى، على رغم تشابه الظروف والملابسات والأسباب، ويصبح أحد المطالب شرعيا وملحا في بلد، بينما يغدو هذا المطلب نفسه مرفوضا وزائدا عن الحاجة في بلد آخر. ويغدو تحريك قضية صغيرة وعادية في بلد ما مسألة حياة أو موت، بينما يتم التغاضي عن قضايا أخطر وأكثر جوهرية في بلد ثان وهكذا.
إن هذا الخلل الأخلاقي في التعامل أو النظر إلى الاستبداد هو أحد أسباب استمراره وبقاءه في بيئتنا العربية سواء على المستوى السياسي أو المستويات الأخرى
العدد 44 - السبت 19 أكتوبر 2002م الموافق 12 شعبان 1423هـ