في ختام أعمالها في صنعاء يوم الثلثاء 15 اكتوبر/ تشرين الاول الجاري دعا البيان الصحافي للقمة الثلاثية التي ضمت رؤساء السودان (عمر البشير) واثيوبيا (زيناوي) واليمني (علي عبدالله صالح) دولة إرتريا إلى «عدم تكرار اخطاء الماضي و إلى التمسك بمبادئ حسن الجوار وأن تكون إرتريا عضوا فاعلا في محيطها الاقليمي وعاملا أساسيا من عوامل تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة. وبما يحقق للشعب الارتري طموحاته في مجتمع ديمقراطي يعود عليه بالخير والنماء والحرية». وكذلك «عبر الرؤساء عن العلاقات التاريخية والاجتماعية التي تربط شعوبها بالشعب الارتري الذي يكنّون له كل الاعزاز والتقدير ويتمنون له الأمن والرخاء والتقدم». ثم «أدان القادة الاعتداء الذي تعرض له السودان عبر حدود ارتريا، كما أدانوا أي تدخل في الشئون الداخلية للسودان».
نعم «اشاد البيان بالدور الذي تلعبه اثيوبيا على المستوى الاقليمي من اجل حل الخلافات بالحوار والطرق السلمية للحفاظ على الأمن والسلام الدوليين».
لا يحتاج الأمر إلى «قراءة بين السطور» كما سبق أن «تلاسن» وزيرا خارجية ارتريا والسودان، الصديقان العزيزان - بالنسبة الي - وليس لبعضهما بعضا (الآن) وهما علي سيد عبدالله ومصطفى عثمان اسماعيل «علنا» وعلى الملأ كله عن القراءة في «السطور» وما «تحت» السطور في فضائية عربية.
العناصرالاربعة الواضحة في البيان هي كالآتي:
اولا: إدانة «النظام» الارتري الذي يتزعمه الرئيس اسياس افورقي لاعتباره مصدر قلق لجيرانه من ناحية ولشعبه ايضا من ناحية اخرى بما يحول دون الاستقرار إقليميا والديمقراطية والنماء داخليا.
ثانيا: إدانة النظام الارتري بوصفه «معتديا» على حدود السودان الشرقية، ومتدخلا في شئون السودان الداخلية.
ثالثا: توجيه الخطاب إلى الشعب الارتري مباشرة الذي يكنون له كل الاعزاز والتقدير ويتمنون له الأمن والرخاء والتقدم.
رابعا: الاشادة بالدور الاثيوبي في تحقيق السلام الاقليمي والمصالحة، والمقصود الساحة الصومالية.
هذه العناصر الاربعة لا تحتاج إلى قراءة بين السطور أو فوقها أو تحتها فهي واضحة في السطور نفسها، وهذه اول قمة تأتي بمثل هذا الوضوح إذ ان البيان تجاوز بوضوحه رغبة الرئيس اليمني «المضيف» الذي كان ابداها قبل يوم واحد من صدور البيان حين أكد خلال مؤتمره الصحافي بتاريخ 14 اكتوبر الجاري ان القمة لن تبحث الموضوح الارتري وان القمة لا تكنّ اي عداء لارتريا وتتمنى لها الأمن والاستقرار». فما الذي طرأ خلال 24 ساعة فيتم البحث في الموضوع الارتري وتطلق هذه «الادانات»؟
الواضح أن نظام السودان واثيوبيا دفعا باليمن إلى خارج «اجندته» أو بالاحرى تصوراته لأهداف هذه القمة. فالقمة كانت بالنسبة إلى اليمن تشاورية عن مجمل الأوضاع في القرن الافريقي والبحر الاحمر وذلك بحكم ما يتميز به اليمن من ترابط جيو - بوليتيكي وتداخل جيو - ستراتيجي مع دول القرن الافريقي وبالذات في مضيق باب المندب جنوب البحر الاحمر، هذا إذا لم ندرج التداخل الحضاري والثقافي والتاريخي بين حضارات اليمن القديمة وشعوب القرن الافريقي.
ونتيجة كل هذه الأبعاد لا يمكن التفكير «استراتيجيا» في القرن الافريقي ومستقبله بمعزل عن اليمن، بل ان السياسة الخارجية اليمنية «ذات بعدين»: الاول عربي جزيري، والثاني افريقي عبر البحر الاحمر. وبمدى الاندفاع تجاه مجلس التعاون الخليجي هناك اندفاع مواز له تجاه القرن الافريقي.
اذن من المنطقي والطبيعي جدا ان تنعقد قمة لرؤساء من القرن الافريقي او لكل الرؤساء في صنعاء، والا يكون ثمة ما يدعو إلى تفسير هذا الانعقاد في صنعاء بمقدمة لايجاد «محور ثلاثي» ضد ارتريا، وهذا ما ينتهي إليه اي محلل سياسي تابع تصريحات الرئيس اليمني في مؤتمره الصحافي السابق بيوم واحد لبيان الرؤساء الثلاثة.
غير ان صدور البيان بنقاطه الاربع الحساسة جعل من تلك القمة قمة «محور ثلاثي ضد ارتريا» وذلك لسببين:
الاول: وهو ان نصوص البيان الختامي دالة على ذلك، فالقمة قد خرجت من الحدود التشاورية «لاتخاذ موقف» وعدائي.
ثانيا: هذا الموقف العدائي يدفع المحللين السياسيين لاستدعاء «القواسم المشتركة». بين هذه الدول الثلاث في موقفها من إرتريا، فبالنسبة إلى اثيوبيا هناك «حربها الممتدة» مع ارتريا إذ مازالت كل الحلول الآنية والراهنة هي مجرد ضمادة على جرح لم يعالج وهذا ما أوضحته في محاضرتي «الحرب الارترية - الاثيوبية: خلفياتها والحلول الجذرية - مركز الدراسات الاستراتيجية - الخرطوم - تاريخ 20 يونيو/ حزيران 2000). وبالنسبة إلى السودان فإن كل العطارين لا يصلحون ما أفسده الدهر بين النظامين وبالذات بعد العام 1994 حين قطعت ارتريا علاقاتها الدبلوماسية مع النظام السوداني وتبنت المعارضة السودانية المسلحة إثر «الغزو الاصولي» الذي تعرضت له في غرب أراضيها من شرق السودان.
وعلى رغم استئناف البلدين العلاقات الدبلوماسية بينهما وفتح الحدود في 21 و22 يناير/ كانون الثاني 2001 فإن نظام السودان عاد لإغلاق هذه الحدود مجددا في الثاني من اكتوبر/ تشرين الاول من هذا العام وشهره الجاري إثر ما ادعاه من «غزو» ارتري لأراضيه الشرقية.
أما بالنسبة إلى اليمن فلاتزال هناك «ذيول» جزر حنيش وحقوق الصيد حتى من بعد التحكيم الدولي، فقطع رأس العنش (الثعبان) لم يعقبه قطع الذيل.
وكان يفترض ان تضم هذه القمة الثلاثية المحورية إلى محورها «جيبوتي» فهي شريكة ايضا في هذه القواسم المشتركة ضد ارتريا. ولكن الذي حال بين جيبوتي وقمة صنعاء هو انحياز قمة صنعاء للدور الاثيوبي في محاولات التسوية الصومالية على حساب مقررات مؤتمر جيبوتي لهذه التسوية، وتبقى جيبوتي محكومة «قاسم صلاد حسن» التي تعارض اثيوبيا «شرعيتها». فلو لم يكن خلاف جيبوتي قائما مع اثيوبيا على المسألة الصومالية وانحياز القمة الثلاثية للموقف الاثيوبي لأصبح المحور المعادي لارتريا «رباعيا» وليس ثلاثيا.
ماذا بعد تشكيل هذا المحور؟
اصبح واضحا ان محورا ثلاثيا تشكل ضد إرتريا في قمة صنعاء، وان اليمن الداعية والمستضيفة للتشاور فقط فقدت موجهاتها خلال 24 ساعة، هي الفاصل الزمني ما بين مؤتمر الرئيس اليمني وبيان القمة الثلاثية. فماذا سنتوقع؟
إن المسألة لا تحتاج إلى استشراف مستقبلي بقدر ما تحتاج إلى استدراك ما ضوي. فجذور هذا الحلف العدائي يرجع إلى ما اعقب «تحالفا استراتيجيا». كان قائما بين النظامين في كل من السودان وارتريا طوال الفترة من قيام الحكومة الانتقالية في ارتريا بعد تحرير العاصمة اسمرا عسكريا العام 1991هـ وقيام الانقلاب العسكري للانقاذ في الخرطوم العام 1989، إذ خاضت القوات الارترية معارك ضارية ضد حركة قرنق لصالح نظام الانقاذ كما اهدت كل الاسلحة الثقيلة التي غنمتها من الجيش الاثيوبي المنهار في اسمرا لحكومة الانقاذ. ثم وإلى العام 1993 حين اعلان استقلال ارتريا كان الرئيس الارتري يحاول اقناع الادارة الاميركية بعدم اتخاذ موقف عدائي - كانت بدأت نذره - ضد نظام الانقاذ.
وبمنطق التحالف الاستراتيجي نفسه كانت العلاقة بين القيادتين في ارتريا واثيوبيا، وما لا يدركه كثيرون ان ارتريا خاضت معارك داخل اثيوبيا لتصفية معارضي الحركة الشعبية لتحرير تجراي التي يتزعمها الرئيس (زيناوي) ليس من بعد وصول (اسياس) و(زيناوي) إلى سدة السلطة في البلدين العام 1991 ولكن منذ الاعوام 1976 وإلى 1978، تم نسج التحالف الاستراتيجي بين القيادتين إلى ان انهار واندلعت الحرب المؤسفة بينهما، الاولى في مايو/ أيار 1998 والثانية في يونيو / حزيران 2000.
فالقيادة الارترية بدأت علاقاتها بالنظامين الاثيوبي والسوداني بوصفها حليفا استراتيجيا ومن منطلق أرادته «تكامليا»، ولو كنت في معرض التوثيق لتحول هذا المقال الصحافي إلى مجلدين إذ اني معني بهذا القرن الافريقي وبحره الأحمر منذ العام 1964 وعلى صلة «بالتفاصيل» التي ينسبها البريطانيون عادة إلى الشياطين. واستطيع القول بفم مليء ان النظام الارتري هو ضحية الآخرين وليس العكس.
غير ان الخطيئة الكبرى للنظام الارتري بقيادة صديقي طوال ربع قرن وهو اسياس افورقي انه اندفع في ذلك التحالف الاستراتيجي مع القيادتين (الاثيوبية منذ العام 1978) و(الانقاذ السوداني منذ العام 1989) ولأهداف شكلية من دون ان يأخذ في الاعتبار «حقائق سالبة» تحيط يوضعية حركة الانقاذ في السودان ومنهجها وطموحاتها، وهذا ما تبين له بعد الغزو الاصولي العام 1994، فانقلب من التحالف الاستراتيجي إلى العداء الاستراتيجي، وهذا ما عبّر عنه إسياس بغضب شديد في مؤتمره مع الدبلوماسيين في اسمرا بتاريخ 1 يناير/ كانون الثاني 1994 ثم قطع العلاقات الدبلوماسية مع النظام السوداني بتاريخ 6 إبريل/ نيسان 1994.
وتكرر الأمر من التحالف إلى العداء مع النظام الاثيوبي، والخطأ هنا مشترك بين القيادتين الارترية والاثيوبية ومنذ العام 1988، اي ما قبل التحرير، فقد صاغا علاقاتهما بمنطق تنظيم واحد في «بلدين» فلما تبين لهما استحالة استمرار هذه الوضعية في ظل دولتين «مستقلتين» بعد العام 1991 اختلفت خيارات العلاقة بينهما فكانت الحرب الاولى في 1998 ثم الثانية في 2000، ومازال تحت الرماد نار ويوشك ان يكون لها ضرام رغما على الحلول التي أعتبرها سطحية فالخلاف ليس خلاف حدود.
ثم ادى كل ذلك إلى تحالف استراتيجي بين نظامي السودان واثيوبيا ضد ارتريا وتطلعاتها «التكامل» بوصفها محاولة منها «لاحتواء» النظامين السوداني والاثيوبي، فعقد الجانبان السوداني والاثيوبي اتفاقات تكاملية بلغت قمتها من في اتفاقات 7 مارس/ آذار 2000 ثم فتح نظام الانقاذ حدوده الشرقية لتعبر من خلالها القوات الاثيوبية إلى الجبهة الغربية من ارتريا في الحرب الثانية التي اندلعت بعد اشهر من تلك الاتفاقات.
ماذا نتوقع بعد كل ذلك؟
لن يستطيع التحالف بين النظامين السوداني والاثيوبي ان يحقق اهدافا في ارتريا تتجاوز حجمهما في المخططات الدولية المعدة سلفا لاعادة ترتيب الاوضاع في القرن الافريقي والبحر الاحمر. هذا ما سيتكشف للنظامين حين انعقاد مؤتمر «فلوريدا» القادم في الولايات المتحدة الاميركية بتاريخ 14 نوفمبر /شباط من هذا العام، إذ سيفتتحه الأمين العام للأمم المتحدة «كوفي عنان» ويشارك فيه وزير الخارجية الاميركية «كولن باول» وبمعيتهما «ولز كنستايز» مساعد وزير الخارجية الاميركي للشئون الافريقية.
وهل الرئيس الاثيوبي «زيناوي» يعلم حقيقة ما سيجري هناك اكثر من الرئيس السوداني؟ فلن يكون حليفا له بعد «تغيير قواعد اللعبة» في القرن الافريقي. اما اليمن فإنه اكثر حرصا على علاقاته مع الولايات المتحدة.
اما الحديث عن الاوضاع الداخلية في ارتريا فهو حديث ينسحب على الجميع، ويكاد المثل ينطبق على كل نظام «رمتني بدائها وانسلت»
العدد 44 - السبت 19 أكتوبر 2002م الموافق 12 شعبان 1423هـ