مرت ذكرى ثورة 17 اكتوبر/ تشرين الاول 1917 من دون ضجيج. فتلك الايام التي كنا نشهد فيها الاحتفالات والمهرجانات والاستعراضات والحشود التي تهتف بوحدة «الطبقة العاملة» في العالم غابت عن الذكرى. كل ما تبقى من تلك الايام «جثة» قائد الثورة لينين. تلك «جثة» أربكت الروس. فهناك من طالب بدفنها وتركها تستريح. وهناك من تمسك بها لانها تحولت إلى رمز للدولة.
قصة «جثة» لينين تختصر الكثير من معاني المأساة التي اطاحت بأفكار الثورة وخلخلت الأسس التي وعدت الناس بها. فحين توفي مؤسس الدولة دبَّ الصراع على الزعامة، واستخدم كل فريق «لينين» مدعيا انه الوريث الشرعي. فريق تروتسكي قال ان صديقه ترك وصية باسمه وان ستالين مزقها واخفاها. فريق ستالين نفى الادعاء وقال ان تروتسكي اختلق الرواية لتبرير عزله وتفرده بالسلطة.
وهكذا استخدم كل طرف في الدولة والحزب كل ما يملك من ذرائع تبرر شرعيته وتنفي عن الآخر حقه في الوراثة أو التملك. وانتهى الخلاف بمجزرة رهيبة تدافع خلالها «الرفاق» إلى قتل بعضهم بعضا. وانتهى الصراع بانتصار فريق ستالين الذي بالغ في حبه لمعلمه «لينين» إلى حد التقديس.
فالقداسة (اللجوء إلى المقدس) كانت السلاح الأمضى الذي ساعد ستالين في ذبح كل مخالف لرأيه. ومن ضمن الوسائل التي استخدمها ستالين في معركة السلطة جاءت فكرة «تحنيط جثة لينين» فالجثة تحولت إلى رمز للدولة والحزب بعد ان كانت وسيلة من وسائل الصراع على السلطة.
... وحنط لينين ووضعت جثته في مقبرة خاصة وبات على كل روسي ان يزورها ويلقي عليها نظرة عن بعد. كذلك بات على كل زائر لروسيا ان يلقي نظرة على الجثة.
إلى جانب الجثة المحنطة وضعت كتب لينين في المتحف وجمعت كل مؤلفاته ومقالاته حتى تلك الاوراق المهملة التي تركها صنفت وأدرجت ضمن مجموعاته التي بلغت 50 مجلدا. لم تعد بالنسبة إلى الستالينية، الكتب مهمة بقدر ما هو الشخص الذي كتبها. وبدأت تنهال الدراسات عن هذا الانسان «غير العادي». وكيف استطاع ان يكتب هذه المؤلفات كلها وهو أمر لا يستطيعه اي انسان عادي. ضخامة المؤلفات وكثرتها تحولت في ظل الستالينية إلى شهادة جديدة تضاف إلى «قدسية» لينين. وبما ان المقدس لا ينتهي لابد ان يكون وريثه ايضا من المجموعة نفسها.
... وهكذا ورث ستالين عن لينين كل شيء، الذكاء، العبقرية، القدرة الهائلة التي لا تعطى للبشر، والمقدس ايضا. تقديس لينين وتكريس فكرة عبادة الشخص كان المقصود منها عند ستالين تقديس نفسه وعبادتها.
وحين جاء خروتشوف إلى السلطة، بعد رحيل ستالين، أمر اثر تمكنه من الدولة والحزب باخراج جثة ستالين وحرقها متهما اياه بالاستبداد والقهر وتكريس عبادة الفرد وهي أمور تتنافى مع جوهر اللينينية.
تعاطى خروتشوف مع جثة لينين كأمر واقع اي انه سحب غطاء القدسية وعبادة الفرد عن ستالين وتركها حكرا على لينين وحده. فالقداسة برأيه (خروتشوف) لا تحتمل التعدد.
والمشكلة ان تلك المقابر والجثث المحنطة أقيمت باسم «الحداثة» و«التطور» و«التقدم» وغيرها من شعارات تغلب العقل على الغيب والانساني على المقدس. إلا أن الحقيقة دائما تبقى الاقوى. والزمن هو الغالب في النهاية.
... وهذا ما حصل في روسيا بعد انفتاحها. فكل تلك الاسماء والتماثيل والرسومات التي أمضى الفنانون والنحاتون السنوات لانجازها مزقت وتحطمت في ساعات. الا «جثة لينين» اذ احتارت السلطة الروسية في أمرها. فهي رمز الحزب الذي ازيح، وهي رمز الدولة التي تفككت... وهي ايضا من «المقدس» الروسي، فالمقدس في هذه الحال يمكن استخدامه على مستويين: الاول رمز الحاضر والمستقبل. والثاني رمز الماضي.
مرت ذكرى ثورة اكتوبر من دون ضجيج... ولينين بات من الماضي
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 44 - السبت 19 أكتوبر 2002م الموافق 12 شعبان 1423هـ