يقاس تحضُّر الانسان ورقيه بطريقة تعامله مع الآخر الذي يختلف معه. ورسول الله (ص)، وهو القدوة الاولى لكل المسلمين، كان يدعو لله بالتي هي احسن ويكسب الآخرين بسبب ذلك. والمجتمعات المتحضرة في عالم اليوم تفتخر بأنها تتعايش مع بعضها بعضا بصورة سلمية وتنموية على رغم اختلاف وجهات النظر وعلى رغم «الضجيج» الذي تحدثه الأجواء الديمقراطية. فذلك «الضجيج» يمتص المشكلات ويمنعها من الانفجار ويستخلص ما يمكن استخلاصه من حلول يتم الاتفاق عليها بين الأطراف الفاعلة في المجتمع.
وكمسلمين، فاننا بدأنا بفقدان ريادتنا العالمية قبل عدة قرون عندما انتشر الاستبداد ومنع الاختلاف الايجابي ولم يسمح الا بالتمجيد والتطبيل، مما أدى إلى هروب العقول وموت الابداع وانتشار التملق والنفاق في التعامل.
واليوم نحاول تقديم تجرية ديمقراطية بحرينية تعتمد احترام الرأي الآخر. وهذه التجربة لها ايجابيات ولها سلبيات ما نطمح إليه هو تقليل السلبيات وزيادة الإيجابيات. فمن الايجابيات التي خلقتها التجربة البحرينية انتشار الحوار السياسي الحر في المجالس والمنتديات المحلية، بينما يقابل ذلك في جهة السلبيات حجب بعض المنتديات الالكترونية وإلغاء بعض الندوات (كما حصل أخيرا في نادي البحرين وقبل ذلك في نادي العروبة).
فقد كان لإلغاء الندوتين اثر سلبي على رغم ان الحوار الذي يجري في كل مكان من ارجاء البحرين لا يقل ولا يزيد على ما كان سيجري في نادي العروبة ونادي البحرين. ثم ان التعامل مع نواد عريقة مثل الناديين المذكورين لا يبشر بالخير بالنسبة إلى النوادي الأخرى الأقل عراقة والأقل نفوذا. والعذر الذي تقدمه المؤسسة العامة للشباب والرياضة غير مقبول، اذ انها تلجأ بصورة انتقائية إلى قوانين صادرة في حقبة منع الحريات العامة عندما كان قانون أمن الدولة وبعض الضباط امثال العقيد الهارب عادل فليفل يلعبون بمصير البلاد والعباد من دون حساب ومن دون عقاب. ثم ان طلب الرخصة لالقاء محاضرة يعتبر إهانة للفكر لانه يعبر عن «مجاعة» حقيقية في هذا المجال. والحكومات تتدخل لتنظم عملية توزيع الخبز والطحين والشعير (التموين) فقط اثناء الحروب والطوارئ. واذا كان ذلك هو الحال مع غذاء البطن، فكيف الحال مع غذاء العقل في عصر الانفتاح؟
ولذلك فان تدخل المؤسسة العامة او اي جهة حكومية او شركة تابعة للحكومة في منع ندوات او منتديات الكترونية يعبر عن حال «فقر» شديدة يعيشها من يمارس هذا النشاط. اذ ان تطبيق نظام «التموين» على الفكر يبعث برسالة مفادها أن البحرين مازالت خارج «الوفرة» الحضارية في الفكر والمعرفة، ولذلك فان مسئولين يستهلكون موازنة الدولة لديهم مهنة يومية تختص بمنع او السماح لهذا الندوة او تلك.
على ان السماح للندوات والمنتديات لا يعني السماح لكل كلام بذيء وتطاول على الآخرين من دون احترام للذوق الانساني ومن دون مراعاة لمتطلبات السلم الاهلي.
فالحرية تتطلب الاستشعار بالمسئولية للمحافظة على انجازات المرحلة الحاضرة. وما يجري من حوارات في بعض المنتديات العامة والالكترونية يخرج عن اي ضوابط. وهذا الخروج لا تقبله المجتمعات المتحضرة وترفضه، ولكن الرفض لا يكون عبر القمع وانما عبر التجاهل او الرد العقلاني. كما ان كثيرا من الصحف والمنتديات التي تسمح بالحوار الحر المنفتح بصورة واسعة على جميع الآراء المختلفة فيما بينها تشترط ذكر اسم الشخص وهويته لمنع الذين يحاولون اثارة الفتنة ولكنهم يخرجون منها عبر اخفاء اسمائهم وهوياتهم. فاذا كنا لا نعيش تحت طائلة قانون جائر كقانون أمن الدولة فما المانع من ان يذكر كل شخص اسمه وهويته عندما يدلي برأيه او يبشر بفكرة او ينشر خبرا؟ فالحال العادية هي ذكر الاسم الا اذا كان ذلك يتعارض مع مبادئ عدم القذف من دون دليل او الاشارة الى خبر سري يهم المصلحة العامة والشخص لا يستطيع ذكر اسمه لعذر مقبول. ولكن هذا يكون الاستثناء.
ان المعارضة البحرينية اثبتت جدارتها امام العالم في التعامل مع الحريات بمسئولية كبيرة وهي مسئولة عن استمرار هذا التعامل الانساني شأنها في ذلك شأن الطرف الحكومي الذي أبدى ايضا تفهما - ولو بصورة محدودة في بعض الاحيان - لمتطلبات المرحلة الحالية. ولكن هناك ايضا من يحاول الاصطياد في الماء العكر، وهناك من سيحاول الادعاء بانه يمارس نشاطا ما نيابة عن الاطراف المعارضة وبالتالي قد يقوم بأمور تضر المعارضة التي نجحت حتى الآن في المحافظة على سلمية وحضارية نهجها
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 44 - السبت 19 أكتوبر 2002م الموافق 12 شعبان 1423هـ