على انفراد، وبصوت منخفض، كثيرا ما يعترف مسئولو العلاقات العامة في الوزارات والمؤسسات العامة منها والخاصة، بأنهم غير مقتنعين بما يكتبون من ردود في الصحافة المحلية على ما يطرح، ولكنهم يبررون بأن هذه الردود تعد من متطلبات العمل، وبالتالي فهم ملتزمون بما تمليه عليهم أنماط باتت مترسخة في عمل «العلاقات العامة» تفيد بأن يتم «الرد» و«إفحام» المشتكي أو المتسائل أو الكاتب، لإظهاره بأنه لا يفقه شيئا، وأنه متجنٍ، ومجانب للحقيقة، وغالبا ما تذيّل الردود بعبارة أصبحت من نافلة القول، وهي «عدم تحري الدقة» فيما كُتب.
وما حدث من ردود في الآونة الأخيرة، بين «الوسط» وبعض الجهات الرسمية، وكذلك الكتابات المساندة للرأي الرسمي، يمكن - بكل بساطة - تلمس هذا القدر الهائل من التشنج الذي اعتور نصوص «العلاقات العامة»، واستخدامها ألفاظا لا تقترب من العلمية، إذ لا مُسندٍ لها سوى أوهام بأن هناك «حربا» ضد الوزارة وبعض رموزها.
فالوزارات والمؤسسات الرسمية - خصوصا - لم تنشأ إلا لخدمة الناس، وليس الاستعلاء عليهم، وليس المسئول فيها بمسئول إن لم يقبل أن يقع تحت المساءلة، فكلمة «مسئول» مشتقة من السؤال عن أعماله وما قدّمه، وما تم في مؤسسته من إنجاز، لا أن يكون فوق السؤال والمساءلة.
إلا أن سنين تطاولت من التكتيم والتعتيم، ومقولات أسستها نوعية رديئة من الصحافة تشكلت بعد حل البرلمان السالف، أخذت تمجّد - خوفا وتملقا - كل ما يرد من قبل المسئولين، وأصبح المسئولون - مع مرور الوقت وعدم خشيتهم من المساءلة الشعبية والصحافية - لا يُسألون عما يفعلون، وهم يَسألون فقط الناس ويحاسبونهم.
هذه النوعية من المد الإعلامي على مدى ربع قرن من الزمان، جعل عددا من المسئولين يرتفعون من مرتبة «الظن» إلى مرتبة «اليقين» بأنهم خارج نطاق التقييم لما يفعلون، وعلى رغم من تغير الزمان، وانقلاب الأوضاع، وتنفس الناس أجواء الحرية، و«تصنّع» عدد من المسئولين بأنهم «أبناء اليوم»، وأبناء هذه المرحلة، إلا أنهم ينسون - في هذه الغمرة - أنهم إنما ينفتحون على واقع جديد، وشكل جديد من التعاطي. واقعٌ باتت فيه الاعتصامات مسموحة، والمسيرات السلمية متاحة (وإن لم يكن هناك ما يقننها إلى اليوم)، وإيصال الصوت بطرق شتى أوسع من مجرد نشر خبر أو شكوى في الصحيفة التي لا تريد أن تفقد مصادرها الإخبارية حينا، والإعلانية حينا آخر.
فلا يزال عدد من المسئولين الرسميين يساومون الصحافة على الطريقة «البوشية»: «إما معنا، وإما ضدنا». فمن كان مع الجهة الرسمية عليه أن يحجب الشكاوى القادحة في عمل هذه المؤسسة أو تلك، ويطلب من الصحافيين الابتعاد عن نقدها لئلا تزعل المؤسسة، وبالتالي يستحق «المذعن» أن يتلقى أموال الإعلان والتسهيلات وربما تمرير الأخبار الخاصة مكافأة له على إذعانه، وأما من ينشر بعضا مما يجري في هذه الجهات بما يُعتقد أنه «يسوّد وجه» هذه الجهة، فإنه من المغضوب عليهم، فتقوم الجهة الرسمية بمقاطعته، والانتقام منه بطرق شتى، بداية بحجب الأخبار، انتهاء بحجب الإعلان. غير أن هذه الممارسات التي تجد لها متنفسا في الماضي، حينما كانت قنوات الاتصال من الضيق لتمرر مثل هذه الرسائل، أصبح لا يفصلها (الممارسات) عن واقع جديد - هو واقع الحياة البرلمانية - سوى بضع أسابيع، وفي الحياة البرلمانية، قد يُستدعى كبار المسئولين من الوزراء لمساءلتهم، والوقوف على أداء وزاراتهم ومؤسساتهم، وبالتالي، فإن فترة امتدت من الخامس من فبراير من العام 2001 وحتى يومنا هذا، قد تكون تهيئة جيدة للمسئولين حتى «يتدربوا» على الوقوف أمام ممثلي الشعب والإجابة عن الأسئلة، ومواجهة سيل من الانتقادات على الهواء مباشرة، وأمام أجهزة الإعلام الرسمي منها والخاص، حينئذ لا يستطيع أي مسئول اتهام ممثلي الشعب أن «الضغائن» تسيّرهم، أو «الاستفزاز» يقودهم إلى مساءلته، كما لا يمكن لهؤلاء المسئولين معاقبة البرلمانيين بوقف التعامل معهم أو حرمانهم من الإعلانات، مثلا.
كانت فرصة جيدة - هذه التي مرت على البحرين - بالنسبة لكل مسئول حتى يراجع خطواته ومدى صبره على الشفافية بكل معانيها، وتحمله فتح الملفات على الملأ، وتقبل الانتقاد الذي - غالبا ما يكون - موجها إلى العمل وليس إلى الشخص ذاته.
ولكي يكون الموضوع أكثر دقة، فإن هذا التشنج لا يختص بالجهات الرسمية وحدها، بل الناس أيضا ليسوا أقل تشنجا وحدّة في التعامل مع الأمور الرسمية. ففقدان الثقة بات من التجذر في نفوس الكثيرين إلى الدرجة التي يستعدّون معها لتصديق أي أمر سيء يخص المسئول الرسمي، وإن كان هذا الأمر لا يعدو شائعة أو كلاما تنقصه الأدلة، ومن يحتاج إلى أدلة؟ فمادام الرجل مسئولا رسميا، فهو مدان في نظر أناس ليسوا قليلين.
فالناس أيضا - أكثرية ليست بالقليلة أبدا - يشيحون بوجوههم عن التصريحات الرسمية، ويعتقدون أنها مجرد أحابيل ومصائد، وما «مانشيتات» الصحف - إن كانت لرجل رسمي - إلا «أفيون الشعوب»، وتراهم يقبلون بشغف على الروايات الشعبية التي أبطالها أناس اعتياديون، ينتصرون لإنسان «يقول» أنه مظلوم من قبل وزارة ما، لأن هذه الوزارة أو تلك «حتما» ظالمة، وأن عشرات الحجج التي تسوقها العلاقات العامة في الوزارات ما هي إلا كذب صرايح.
ولكن أنّى للصحافة أن تنجو من هذه الكمّاشة؟
ففي شأن وزارة التربية والتعليم، استقصت إحدى الزميلات رأي جماعة من المعلمين الذين قالوا أنهم مظلومون، واستكمالا للصورة، راجعت (الزميلة) الوزارة المعنيّة وأوردت الجواب على ما قيل، فكتبت الوزارة في ردها - الذي عممته على الصحف المحلية الأخرى واستثنت منه «الوسط» - أن الصحيفة متحاملة عليها في هذا الموضوع، فيما أرسل أحد المدرسين معاتبا أنْ لم يكن «العشم» أن يختلط موضوع شكواهم بردّ الوزارة في ذات المكان، الأمر الذي جعل الموضوع ينحرف «90 درجة» - بحسب تعبير الكاتب - عما أريد له.
يبدو أن على «الجمعية البحرينية للعلاقات العامة» - وهي الجمعية الوليدة - أن تضع على رأس أولوياتها برنامجا شاملا يمحو الصورة الباهتة - كي لا نقول السيئة - التي ارتبطت بهذا الجهاز، وإعادة تركيب الصورة من جديد حتى تتسنى إعادة الثقة والود المفقود بين هذا الجهاز وبين الناس، هذا الفقد الذي تأسس عن طريق إدمان الجهات الرسمية على «تبييض» وجهها، وعدم امتلاك شجاعة الاعتراف بالخطأ والوعد بإصلاحه، والأخذ بشرح الأمور من دون هذا القدر من العصبية، واستهلاك هذا القدر من الأعصاب في التعاطي مع حوادث يومية، خصوصا بالنسبة للوزارات الكبيرة التي تخدم شرائح تصل إلى مئات الآلاف من البشر، إذ كلما كبُرت الشريحة، كبُرت معها مشكلاتها، ولا منطق يسعف - حتى أذكى جهاز علاقات عامة في العالم - أن يبرر كل خطأ، ويلقيه على شماعة «عدم تحري الدقة»
إقرأ أيضا لـ "غسان الشهابي"العدد 39 - الإثنين 14 أكتوبر 2002م الموافق 07 شعبان 1423هـ