أشك أن احدا قد تصور ذلك حتى في الحلم. سلطة مؤقتة في العراق، على رأسها جنرال أميركي. والمسألة ليس فيما إذا كان سيكتب لهذه السلطة النجاح أم لا، ولكن كيف فكرت فيها الإدارة الأميركية، وكيف وجدت لها المبررات والقناعة الداخلية؟ فهي استعمار محض. وهي تناقض الأساس الذي قامت عليه الولايات المتحدة نفسها، إذ هي مستعمرة بريطانية سابقة.
الأخطر من ذلك أنها تأتي في وقت بلغ فيه العداء لأميركا ذروته في الشارع العربي، ووسط تجاذب إعلامي وسياسي حاد عن التوجهات السياسية الأميركية والخرائط الجديدة للمنطقة.
لذلك فإن السؤال يظل مطروحا عن الكيفية التي سيتقبل بها العالم العربي الخطوة الأميركية، وهل يتمكن العراقيون الموزعون طوائف وعشائر أيضا من هضمها؟
لكن بعيدا عن الرأي يظل تحليل الخطوة الأميركية أمرا ممكنا. اعتقد أن أبرز دوافع واشنطن في إقامة سلطة مؤقتة في العراق، كإطار لما بعد حكم الرئيس صدام حسين جاء ليجيب عن جملة اسئلة، لها علاقة بأوضاع المعارضة العراقية والوضع الإقليمي والدولي.
ففيما يتعلق بالمعارضة العراقية تبدو الولايات المتحدة مدركة تماما لقوتها وحجمها الحقيقيين. وعلى رغم عدد الأحزاب المنضوية تحت لواء هذه المعارضة، والتنوع الطائفي والإثني الذي تتسم به، فإنها غير قادرة على الإمساك بالوضع في البلاد في حال حصول التغيير.
وتوجد شكوك عن قدرتها في الاتفاق على بديل متماسك وقابل للحياة في العراق. وهي لم تظهر في الفترة الماضية ما يدل على امكاناتها في ذلك، كما أن غالبية نخبها القيادية موجودة في الخارج منذ زمن بعيد، ما يجعلها بعيدة نسبيا عن التأثير والسيطرة على الوضع داخل العراق.
من هنا فإنه لا يظهر أن واشنطن تعول كثيرا على المعارضة في الإمساك بزمام الأمور في حال تقرر العمل العسكري وجرت الإطاحة بنظام الرئيس صدام. وفي الوقت نفسه لا يمكنها ان تسحب قواتها وتترك الوضع المتفجر.
من جهة أخرى تتخوف دول الجوار من اندلاع موجة من الاضطراب وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي في العراق مستقبلا، وبما ينعكس سلبا على الوضع في المنطقة برمته. وتخشى بعض هذه الدول حدوث انقسام في العراق أو تسلم الحكم فيه نظام طائفي أو عسكري. وبمعنى ما فإنه توجد حاجة لطمأنة هذه الدول بأنه يمكن تلافي مخاوفها وضبط الوضع عبر التدخل الأميركي المباشر.
تريد الولايات المتحدة تأكيد التزامها تجاه مستقبل العراق في مرحلة ما بعد النظام الحالي. وأثيرت حتى الآن اسئلة سواء داخل الولايات المتحدة وخارجها عما إذا كان يتعين على إدارة الرئيس جورج بوش التفكير في المرحلة التي تلي الضربة العسكرية. ومن ضمن أبرز الأسئلة هو حجم الكلفة الاقتصادية والبشرية والعسكرية التي سيتطلبها ذلك، بما فيه بقاء قوات أميركية داخل العراق فترة تمتد أشهر وربما سنوات، بالإضافة إلى الكلفة المالية التي قد تفوق 60 مليارا في حال طالت العمليات إلى أكثر من شهرين.
كما أن أحد الانتقادات التي وجهت في السابق إلى الإدارة الأميركية في هذا الصدد هي أنها لم تفكر بما فيه الكفاية في العواقب المحتملة على الشعب العراقي الإطاحة بنظامه بالقوة.
من الممكن والمرغوب فيه - بحسب تصريحات معلنة لبعض أقطاب الإدارة الأميركية - البدء بدمقرطة العالم العربي - ولو بالقوة - بعدما تعذر ذلك اعتمادا على القوى المحلية، وان يكون العراق النموذج الذي تبنى عليه التجربة الجديدة.
والفكرة الأساسية هنا هي أن ذلك لا يمكن أن يتم إلا بتدخل أميركي على الأرض وبصورة مباشرة وربما كثيفة. ويكون هذا التدخل في صورة مرحلة انتقالية يتسلم خلالها جنرال أميركي السلطة في العراق، وتحت إشرافه تتم عملية بناء الحكومة الجديدة، ويجرى وضع دستور جديد للبلاد وانتخابات ديمقراطية بإشراف دولي.
طبعا ثمة دوافع أميركية أخرى كامنة خلف السياسات الأميركية في العراق، بعضها له علاقة بالنفط وبعضها بإعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة، وبعضها بالهيمنة على العالم... الخ، لكن من الواضح أن ثمة قوة دفع باتت تسيّر السياسة الأميركية - ما بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول على الولايات المتحدة - وهي معالجة الأخطار الكامنة في المواقع الموجودة فيها قبل تفاقمها. وقوة الدفع هذه هي التي تتحكم اليوم في توجيه صنّاع القرار في البيت الأبيض بالنسبة إلى المنطقة العربية والعراق بالتحديد، حتى ولو اقتضى الأمر استعمار هذا البلد.
لكن المشكلة أن العراق ليس أفغانستان وليس اليابان أو ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. فعوضا عن الواقع الطائفي والقومي والعشائري المعقد، وعوضا عن وجود دول قوية محيطة به، لن تقف مكتوفة الأيدي في حال خرجت الأمور عن السيطرة في هذا البلد، فإن مصير منطقة الشرق الأوسط برمته يبدو معلقا اليوم على ما ستحدثه آلة الحرب والسياسة الأميركية في العراق. فكيف إذا أضفنا لذلك أن حرب الارهاب لا تزال مستعمرة، يذكيها تفاقم الأوضاع في المنطقة، وآخر فصل فيها - وهو ليس الأخير بأي حال - الهجوم على الناقلة الفرنسية في اليمن وجنود المارينز في الكويت، واللذان ينظر إليهما في واشنطن على أنها إشارتان من تنظيم «القاعدة» إلى هجمات أقوى مقبلة ضد الأميركيين ومصالحهم داخل الولايات المتحدة وخارجها
العدد 39 - الإثنين 14 أكتوبر 2002م الموافق 07 شعبان 1423هـ