العدد 39 - الإثنين 14 أكتوبر 2002م الموافق 07 شعبان 1423هـ

عرفات: هل هو الحصار الأخير

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في مقابلة مع رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات قبل 24 عاما، ذكر فيها ما قاله له الزعيم الفيتنامي الأشهر «هوشي منه» نهاية الستينات، في نبوءة سوداوية لما هو مقبل عليه. قال هوشي منه: «إن إسرائيل ستحاصركم في جزيرة صغيرة تمهيدا للقضاء عليكم في النهاية».

كانت المقابلة في العام 1978 أو 1979، وكان عرفات يكافح حينها لإسقاط ما سمي حينها بالخيار الأردني، كحلقة ثانية تالية لكامب ديفيد، إذ استخدم كل بلاغته وقدراته ومناوراته في هذا المجال، ليبقى الرقم الفلسطيني (كما قال): «الرقم الصعب في معادلة الشرق الأوسط». وذهب عرفات في تحليله للنبوءة إلى انه يقصد بالجزيرة الصغيرة جنوب لبنان، خصوصا وان المقاومة خرجت حينها من مواجهة قريبة مع إسرائيل في حرب مارس/ آذار.

ودارت الأيام فإذا بـ «إسرائيل» تكتسح بعد عامين ونصف العام لبنان لتقضي على ما سمي بـ «فتح لاند»، ولتبدأ رحلة جديدة من الشتات الفلسطيني، وانتقل عرفات إلى بلد بعيد جدا بعد ان كان يقيم على حدود بلده المحتل. وكانت تلك قمة التراجيديا التي شهدها العالم صامتا كصمت أصحاب القبور. وكم كان المنظر مؤثرا عندما ركب السفينة والتف حوله مؤيدوه وهو يقرأ لهم من سفر الغربة الجديد.

هل تذكر عرفات حينها نبوءة هوشي منه، أو وجد لها تفسيرا جديدا؟ وهل كان يخطر بباله ان ثمة حصارا آخر ينتظره بعد سنين من توقيع الاتفاقات الأمنية والمعاهدات التي أشرف عليها البيت الأبيض، والتنازلات التي ما كانت تمر على خيال أحد من المراقبين.

في بداية الإعلان عن اجتماعات سرية قبل مدريد بين الفلسطينيين و«الإسرائيليين»، جاءني أحد الزملاء في السجن وصوته يتهدج قائلا: «هل سمعت بما جرى؟ سيتم الاتفاق بين عرفات وإسرائيل ليعود إلى داخل فلسطين ويقوم باعتقال الفلسطينيين».

في تلك الليلة نمت والهموم تتناوشني من كل جانب. نسيت هموم السجن كلها وبتّ أفكر بما الفلسطينيون مقبلون عليه. كان شيئا يفوق طاقة العقل على التصور.

ومرت الأيام وتحققت نبوءة صاحبي، وقبل عرفات لعب هذا الدور. وعندما فرض الإسرائيليون عليه الحصار قبل عدة أشهر، كنت ملتصقا بالشاشة، اتنقل بين الفضائيات لمتابعة الخبر، فلعلها تكون نهاية حقبة لتبدأ حقبة جديدة لا يعلم بملامحها غير الله. واستمر الحصار ليخرج منه عرفات بطريقة لم يتمنها له أحد يحب الفلسطينيين، فقد سلّم قادة الجبهة الشعبية للعدو ليوضعوا تحت حراسة أميركية بحسب رغبة «إسرائيل». يومها كم تمنيت لو استشهد عرفات ليختم حياته بغير الخاتمة التي أرادتها له أميركا و«إسرائيل».

والآن يجد نفسه محاصرا من جديد... مهملا، مهمشا، لايزور ولا يزار. على ان ما انتهى إليه هو نتيجة طبيعية لما سلكه من درب وارتضاه من «خيارات».

الأخطاء القاتلة

مشكلة القادة والزعماء ان أخطاءهم تعم الآلاف والملايين، وكلما كانت الظروف والأحوال شائكة كلما زادت رقعة المعاناة الناتجة عن الأخطاء. وعندما نتابع حياة عرفات سنقف في سياق رحلته الشائكة على محطات موجعة بمعنى الكلمة، ارتكب فيها أخطاء قاتلة: فمن موقفه من إيران الخميني، ودعمه للغزو العراقي للكويت، وانتهاء بدخول نفق المفاوضات المظلم. على ان أكبر أخطائه قاطبة - في اعتقادي - ما حدث قبل أكثر من عامين، حين طالب الشارع الفلسطيني الغاضب بإجراء تعديل وزاري وإبعاد بعض الوزراء الذين فاحت روائح فسادهم عن السلطة، والغريب ان رجلا عركته السنون والتجارب ارتكب هذا الخطأ القاتل جدا، حين أخرج من الوزارة بعض الوزراء الجيدين وأصر على بقاء الوزراء المشبوهين، وهي خطوة أذهلت المراقبين لفرط غرابتها. خصوصا وانه في أمسّ الحاجة إلى تكتيل الوضع وجذب الشعب وتقريب القلوب في ظرف حرج تمر به القضية الفلسطينية. حينها تمنيت لو يثوب عرفات إلى رشده ويتصرف كرجل حكيم، تعلو عنده مصلحة شعبه العامة على مصالح فئة قليلة متنفذة من المقربين إليه. لكن وللأسف الشديد حدث العكس.

ومهما قيل عن عرفات فتبقى له بقية من تقدير لما قام به في سني النضال، لما يمثله من رمز لقضية الوطن السليب، ولما تمثله كوفيته من رمز لهذه القضية... التي شغلت الدنيا وستبقى شاغلة الدنيا لعقود مقبلة

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 39 - الإثنين 14 أكتوبر 2002م الموافق 07 شعبان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً