في الأسبوع الماضي أتيحت لي فرصة إطلالة سريعة من «عين طائر» على هذا الخليج المضطرب في الواقع، حين حطت بنا الطائرة في البحرين، كانت عاصمتها المنامة، كما عرفناها، مدينة هادئة رائعة تزداد ازدهارا، بحكم موقعها وموقع البحرين كلها، كجزيرة صغيرة في الخليج تنفتح عبر المياه على الجوار العربي - السعودية وقطر والإمارات من ناحية وعلى الجوار الإيراني من ناحية أخرى. وعلى رغم هذا الهدوء الملفوف بالوداعة التقليدية، كان أهلها غارقين في صخب سياسي حول خطة الإصلاح التي تجري، ومعها الانتخابات البرلمانية المقرر لها 24 الشهر الجاري، ثمة فرحة عامة باستعادة الأمس الديمقراطي الذي عرفته البحرين قديما، وتعطل منذ إلغاء البرلمان العام 1975 وإيقاف العمل بدستور 1973 وانتكاس الانفتاح الديمقراطي الواعد.
ثمة انشقاق - على رغم ذلك - بين مؤيد لخطوات الاصلاح السياسي ومن ثم المشاركة في الانتخابات المقبلة، وبين معارض لها بحجة ان هناك التفافا من الحكم على دستور 1973، الأمر الذي أدى إلى مقاطعة أربع جمعيات سياسية - أحزاب غير معلنة رسميا - أقواها «جمعية الوفاق الإسلامي» الشيعية ذات النفوذ الواسع، لهذه الانتخابات، الأمر الذي يهدد بنجاح ملحوظ الاصلاح السياسي.
لكن صخب الخلاف السياسي وضجيج الحملة الانتخابية وخلافات المشاركين والمقاطعين، لا تخفي حال ذلك التوتر الكائن في الأعماق، تحسبا للحرب الأميركية على العراق التي باتت في رأي الكثيرين قدرا محتوما سيقع بين يوم وآخر على رؤوس الجميع، فيصيب الجميع بالكوارث التي لا يمكن مواجهتها بسهولة، فزعيم الحرب المصمم هو «النسر الأميركي» بكل جبروته الذي لا يرحم، والمستهدف هو العراق الدولة المحورية في الخليج العربي، بكل ثقله وقوته وتأثيراته.
في البحرين يزداد القلق الكامن والتوتر الرابض خلف حال الهدوء والوداعة، لأن البحرين الجزيرة الصغيرة بمساحتها وسكانها الذين لا يزيدون عن 700 ألف بين مواطن ومقيم وأجنبي، هي مركز من أهم مراكز القيادة للاسطول الخامس، وتربطها بالولايات المتحدة معاهدات سياسية وعسكرية وثيقة، وتحتل بالتالي موقعا استراتيجيا سواء في الخليج، أو في مخططات القيادة العسكرية الأميركية، الأمر الذي يعني بوضوح انها سيكون لها دور ما في أي حرب مقبلة ضد العراق، على رغم موقفها السياسي المعلن بمعارضة الحرب، مثلها مثل معظم الدول العربية.
غير ان المواقف المعلنة سياسيا وإعلاميا بمعارضة ضرب العراق شيء، والأمر الواقع شيء آخر لأنه القانون الأقوى والأكثر فاعلية، فالوجود العسكري الأميركي خصوصا في دول الخليج قوي وظاهر للعيان، في الجو والبر والبحر، ودول مجلس التعاون الخليجي الست - البحرين وقطر وعمان والسعودية والكويت والإمارات - ترتبط بالولايات المتحدة بروابط سياسية واقتصادية وعسكرية قوية، وصولا إلى معاهدات الدفاع المشترك في الغالب الأعم، ومن ثم فإن القوات الأميركية موجودة في القواعد والمطارات والموانئ والمياه الاقليمية، مع القوات البريطانية صاحبة النفوذ الاستعماري السابق أو من دونها.
لكن الوجود العسكري والنفوذ السياسي والمصالح الاقتصادية الأميركية، تزايدت بقوة منذ غزو العراق للكويت العام 1990، وحرب «عاصفة الصحراء» العام 1991، وتحولت الزيارات العسكرية إلى إقامات دائمة وشبه دائمة، فأرهقت موازنات هذه الدول النفطية باستنزاف هائل لشراء الأسلحة الأميركية والبريطانية والانفاق الغزير على تدعيم نظم الدفاع، سواء توجسا من غزو جديد مشابه للغزو العراقي للكويت، أو تحت ضغط تجارة السلاح الدولية، فإذا بكل هذه الموازنات تعاني عجزا هائلا، بعدما عاشت طوال السبعينات والثمانينات فترات الوفرة والدخول المالية الهائلة من بيع النفط بأسعار مرتفعة بفضل حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973.
ومنذ ان تحملت دول الخليج معظم نفقات حرب «عاصفة الصحراء» التي قدرت بنحو 60 مليار دولار، ثم منذ توسعها في شراء صفقات الأسلحة بمبالغ تفوق ذلك بكثير، وتحت هاجس الأمن والخوف من مصير كالذي حدث للكويت من جانب العراق، ازداد استنزاف الثروة من ناحية، وازداد الوجود العسكري الأجنبي من ناحية ثانية، ثم استمر ازدياد القلق من المستقبل الغامض من ناحية ثالثة.
وكانت النتيجة ان تحولت دول الخليج النفطية، إلى ساحة هائلة لتفاعل القلق، المصحوب حتما بتوترات اجتماعية جديدة، نتيجة الأزمات الاقتصادية وما تبعها من كساد وبطالة وتذبذب أسعار النفط وانفاق متزايد على صفقات الأسلحة، وغروب فترة الوفرة والرفاه، وبروز التزامات مالية جديدة مع الغاء امتيازات سابقة كانت منحة من دولة الرفاهية للمواطنين.
ولذلك لم يكن غريبا ان تصبح دول الخليج الغنية بالنفط، صاحبة أكبر المديونات، فالسعودية ذات الاقتصاد الأكبر بحكم إنتاجها النفطي، الذي يزيد على عشرة ملايين برميل يوميا، تعاني موازنتها من عجز كبير، ويبلغ دينها العام 649 مليار ريال بما يمثل 95 في المئة من الناتج المحلي العام 2002، طبقا لصحيفة «الشرق الأوسط» السعودية (عدد 27/ 9/ 2002)، فما بالكم بدول أخرى أصغر وأفقر مثل البحرين التي لا تملك مصادر نفط ذات وزن، وما بالكم بتأثير ذلك على مستوى المعيشة وارتفاع الأسعار وزيادة الانفاق ونسبة البطالة التي تصل إلى 14 في المئة وفق المصدر نفسه.
والحقيقة الظاهرة والخفية، ان الأزمة الاقتصادية وتفاعلاتها الاجتماعية الضاغطة، مصحوبة بالوجود العسكري الأجنبي الثقيل المستفز والمستنزف.
وتحت ضغوط مزدوجة، بعضها داخلي يطالب بالمشاركة في السلطة والثروة، وبعضها خارجي يطالب بتوسيع الانفتاح الاجتماعي، بدأت معظم حكومات الخليج تنظر بجدية في مرحلة الانفتاح التي صارت مطلبا وطنيا.
ثمة انتخابات برلمانية في الكويت والبحرين، وثمة انتخابات بلدية في قطر وحديث عن دستور وبرلمان منتظر، وثمة نقاش حول تحويل مجالس الشورى المعينة إلى مجالس منتخبه في الباقي، اتقاء للضغوط المزدوجة ومجاراة للدعوة العالمية إلى الانفتاح والديمقراطية، التي تحتاج إلى ما هو أعمق من جراحات جذرية في بنية النظم والهياكل القائمة والنظرة الحديثة إلى حقوق المواطن وحرياته في الأساس!
غير ان التناقض الواضح أيضا، انه مع ازدياد التطلع إلى الانفتاح والدعوة إلى المشاركة السياسية التي تتزعمها اميركا من الخارج، يزداد الالحاح على تأجيل ذلك وترحيله إلى ما بعد انكشاف الضباب، بحجة ان التوتر السياسي العسكري القائم في المنطقة بسبب الحشد الاميركي للحرب ضد العراق، يضع المنطقة كلها في فوهة البركان، وهكذا تقع اميركا في التناقض وتدفع المنطقة معها، فهي تضغط طلبا للاصلاح السياسي، لكنها تتسبب في تعطيلها.
وفي المقابل فإننا لا نستطيع أن نغادر المنطقة من دون ذكر ابعاد اخرى تلعب دورها، أو لا تلعب دورها، ومن ثم تساعد بشكل من الاشكال في هذا الترحيل والتعطيل وتعقيد الأزمة، وأولها تراجع الدور العربي القومي في الخليج منذ ما بعد حرب الخليج الثانية، تراجعه سياسيا وفكريا، وتراجعه ماديا وواقعيا لحساب نمو النفوذ الاجنبي، سواء كان اميركيا وبريطانيا عبر المعاهدات السياسية والاقتصادية والعسكرية، أو عبر العمالة الاجنبية وخصوصا الآسيوية على حساب العمالة العربية.
وثانيها تصاعد دور دول الجوار الكبرى الثلاث، المطلة على الخليج عن قرب، وهي ايران وتركيا والهند، سواء كان دورا عسكريا وسياسيا، أو كان دورا اقتصاديا وبشريا، حتى صارت دول الخليج في مجملها تعاني خللا سكانيا خطيرا، بحكم ملايين الخبراء والعمال الأجانب فيها، حتى بما يزيد على حاجتها الحقيقية الراهنة، خصوصا بعد تراجع عصر الوفرة.
أما البعد الثالث والأخطر فهو بروز الدور الاسرائيلي، سواء كان متخفيا أو صريحا.
واذا كانت الهند مثلا تتحدث عن احقيتها في «دور استراتيجي» في الخليج بحكم الملايين من عمالها هناك، فإن اسرائيل تتطلع إلى «دور استراتيجي» آخر بمساعدة اميركا أو بغير مساعدتها.
وها هي نذر الحرب الاميركية ضد العراق المحاصر، تتجمع في الافق الخليجي، لتضفي مزيدا من التوتر والقلق والغضب... ألم نقل من البداية إن الخليج العربي يتقلب على جمر
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 39 - الإثنين 14 أكتوبر 2002م الموافق 07 شعبان 1423هـ