العدد 37 - السبت 12 أكتوبر 2002م الموافق 05 شعبان 1423هـ

واشنطن تريد احتواء نظام الإنقاذ لا إسقاطه

مبدأ الشراكة بين السودان والولايات المتحدة

محمد أبوالقاسم حاج محمد comments [at] alwasatnews.com

.

التوصّل إلى مذكرة تفاهم بين حكومة «الانقاذ» و«حركة تحرير شعب السودان» الجنوبية في «مشاكوس» في كينيا هو انتصار حاسم لمبدأ «الشراكة» الأميركي مع القارة الإفريقية من جهة، وثمرة جهود مضنية بذلتها قيادات متنفذه في الإدارة الاميركية طوال فترتي «بيل كلينتون» الديمقراطية، و«بوش الابن» الجمهورية من جهة أخرى. ويكاد يغطي هذا الجهد مدى خمس سنوات بداية من 1997.

المتتبعون عن كثب للشأن السوداني في الأروقة الأميركية حقّ لهم أن يدركوا مسبقا لا ان يخمّنوا فقط، تحرك أميركا «لتسوية» سياسية ودستورية في السودان برمته، انطلاقا من تفاهم أولي يتم ثنائيا بين الانقاذ وحركة قرنق، ثم يعاد صوغ الوضع السوداني بأكمله.

أما الموقف من قوى المعارضة السودانية الأخرى الممثلة في التجمع الوطني الديمقراطي فقد حدده «هيرمان كوهين» في إدارة كلينتون العام 1993 بقوله: «إنهم أشبه بمعارضي البلاشفة في مقاهي الشانزلية» مشيرا إلى معارضي الثورة الشيوعية في روسيا العام 1917 وممارستهم الثرثرة في مقاهي باريس. وأيّد رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتها (18 مارس/ آذار 1993) الرأي، وهو إسحاق رابين لدى لقائه أحد المعارضين السودانيين. لذلك لا ينال هؤلاء في مشاكوس سوى «تبني قرنق لطروحات حلفائه، و«استصحاب» الانقاذ للموالين له فقط.

لم تكن الإدارة الأميركية وهي في قمة ما يظهر من عدائها للنظام السوداني بداية من العام 1993 وليس بداية من الانقلاب في 29 يونيو/حزيران 1989 - كما يُعتقد - قد خططت يوما لإسقاط نظام الانقاذ وإن صرحت بذلك في مناسبات أخرى تصريحات «مراوغة» كما ورد على لسان وزيرة خارجية كلينتون مادلين أولبرايت حين لقائها برموز للمعارضة السودانية أثناء زيارتها العاصمة اليوغندية (كمبالا) في الأسبوع الأول من ديسمبر/كانون الأول 1997.

صرحت أولبرايت بذلك وهي تكتم «ضحكة مكبوتة»، إذ ان الإدارة الأميركية اعتمدت في حال النظام السوداني مبدأي «العزل» و«الاحتواء» وليس «الاسقاط».

السبب في ذلك ان أميركا توصلت إلى القناعة في العام 1972، ثم ترسخت قناعتها في العام 1984 ثم تأكد لها في 86/1989 ان مستقبل علاقتها مع السودان بكامل حيوياته الجيو-بوليتيكية والاستراتيجية والاقتصادية الهائلة والواعدة لا يمكن أن تؤسس على التركيبة السياسية والدستورية التي خلفها البريطانيون وكرست تحكّم القوى الطائفية وتنافرها ومنازعاتها الحزبية من دون سيطرة محورية قابضة.

فبعد أن لعبت أميركا دورا أساسيا في صناعة انقلاب الفريق إبراهيم عبود في 17 نوفمبر/تشرين الأول 1958 «عبثت» الطائفية والقوى الحزبية بداية من العام 1962 بالنهج الأميركي في السودان، فاشتعلت الحرب الأهلية الثانية في الجنوب بقيادة وليم دينغ وتنظيم (مسانو) - الثورة الأولى في أغسطس/آب 1955 -، كما سقط عبود - بعد خروجه من الدائرة الاميركية وانحيازه لمصر عبدالناصر ودول عدم الانحياز وتعاونه مع الاتحاد السوفياتي - إثر ثورة شعبية في 24 أكتوبر/تشرين الأول 1964.

كررت أميركا محاولة العودة للامساك بالسودان مرة أخرى بعد صراع نميري مع القوى اليسارية وإجهاض انقلابها الذي نجح لمدة ثلاثة أيام فقط 19/23 يوليو/تموز 1971، فباشرت أميركا منذ مطلع 1972 احتواء نظام نميري، محققة اتفاق «أديس أبابا» بين النظام وقائد المقاومة المسلحة وقتها في جنوب السودان اللواء جوزيف لاغو بتاريخ 26 فبراير/شباط 1972.

كانت مخابرات ألمانيا الغربية (وقتها) اللاعب الأساسي في ذلك التحول، إذ استعاد السودان علاقاته بها بعد خمسة أشهر من تصفية اليساريين بتاريخ 23 ديسمبر 1971. وقبل ذلك فرضت مصر (عبدالناصر) مقاطعة عربية لألمانيا الغربية، فما كان منها إلا ان ضربته في «عمقه» السوداني، ثم مهدت ألمانيا الغربية لاستعادة علاقة السودان المقطوعة مع أميركا في 25 يوليو 1972، وكعربون للصداقة مع ألمانيا الغربية أطلق نظام نميري سراح المعتقل الألماني (الصهيوني النزعة) رالف شتاينر الذي حُكم عليه بالاعدام في الخرطوم بتاريخ يوليو 1971 نتيجة تعاونه مع قوات جوزيف لاغو في الجنوب وقد تسلمته يوغندا.

وقتها كان القنصل الأميركي كيرتس مور يحكم الخرطوم، كما أشارت إلى ذلك «بغيظ شديد» الصحف المصرية، ثم لاقى كيرتس مور مصرعه مع السفير الأميركي والقائم بالأعمال البلجيكي في السودان في الأول من مارس 1973 حين اقتحمت «أيلول الأسود» الفلسطينية حفلا للسفارة السعودية في الخرطوم بمناسبة عيدها الوطني. ثم جاء الرد الفوري بالتنسيق بين «الموساد» الإسرائيلي ومكتبه «غير المعلن» في الخرطوم والمخابرات الأميركية فتم اقتحام «حي فردان» في بيروت بتاريخ 10 ابريل/نيسان 1973 - بعد شهر واحد - وثم اغتيال كمال عدوان وكمال ناصر وأبو يوسف النجار.

لم تستمر الهيمنة الأميركية طويلا نظرا لصعوبة التعاطي مع الرئيس جعفر نميري، فهو «فردي النزعة» و«متقلب المزاج» و«محدود الأفق سياسيا وفكريا»، إذ انعطف باتجاه المصالحة مع المعارضة التي كانت تساندها ليبيا ومصر، وتمكنت من إحداث «اقتحام عسكري جزئي مسلح» في الخرطوم بتاريخ 2 يوليو/تموز 1976 ما دفع نميري إلى المصالحة الفورية مع مصر وتوقيعه اتفاقا للدفاع المشترك معها بعد أقل من أسبوعين بتاريخ 15 يوليو 1976.

ثم انقلب نميري في تلك الأجواء على اتفاق أديس أبابا لعام 1972 الذي حققه تحت مظلة أميركية/ألمانية غربية/أثيوبية. فأعلن بتاريخ 3 مارس 1976 «تفتيت» الوحدة الإقليمية الإدارية للجنوب إلى ست محافظات وكثّف اعتقال القيادات الجنوبية، منهيا بذلك اتفاق أديس أبابا.

العودة إلى المربع الأول

بعد ذلك عادت أميركا إلى المربع الأول في سياستها السودانية فقررت التخلص من نميري على رغم محاولته التعاون مع اللوبي النفطي في واشنطن بتوجيه من شركة «شيفرون الأميركية» التي وقع معها اتفاقا للاستثمار النفطي بتاريخ 23 نوفمبر 1974 منهيا بموجبه «516 ألف كيلومتر مربع».

رأت اميركا في تقرير صدر عن وزارة الدفاع «البتاغون» بعنوان: «المضاعفات الإقليمية والاستراتيجية لعدم الاستقرار في السودان» صادر بتحرير الخبير أنطوني هـ. كوردسمان ضرورة احتواء السودان بأحد طريقين: إما بنظام ديمقراطي يركز على تحالف القوى الثلاث في الشمال وهي «الحركة الإسلامية» و«حزب الأمة» و«الحزب الاتحادي الديمقراطي» مع العودة إلى اتفاق 1972 مع الجنوب. وأمّا - وهذا هو الذي يعنينا - إيجاد نظام له خصائص «محورية» قادرة على استقطاب مختلف القوى من حوله، والأكثر ترشيحا لذلك «الحركة الإسلامية» التي يرى التقرير أنها في السودان «أقل تعصبا» من مثيلتها المصرية وأكثر «انفتاحا» من مثيلتها السعودية. غير أن هذه الحركة الإسلامية - كما يرى التقرير - ستسبب قلقا للأنظمة العربية «المعتدلة» على الصعيدين السياسي والعسكري، ولكن هناك إمكان «تدجينها» لأنها ستكون بحاجة للمساعدات من ناحية ولأن خطرها لن يظهر قبل «عشرين عاما» من وصولها إلى السلطة.

لهذا لم تمانع أميركا من سيطرة الإسلاميين على السلطة في السودان في 29 يونيو 1989 في ضوء تقرير البنتاغون الصادر في 14 ديسمبر 1984، أي قبل خمس سنوات من «الانقلاب الشعبي» على نميري والمخطط له جيدا عبر التنسيق الأميركي مع أجهزة نميري الأمنية وقادته العسكريين فقد صبرت أميركا ثلاث سنوات على النيابية الثالثة (1986/1989) ولم يتحقق هدفها من التنسيق المركّز بين قوى الطائفية والحركة الإسلامية فلجأت إلى الخيار الثاني أي الحكم الإسلامي «المحوري»، وبقيت تراقبه منذ العام 1989 حتى العام 1993، حيث كشف هذا الحكم الإسلامي عن «محذور» ورد بذات التقرير وهو ظهور «بونابرت» صغير يغيّر حسابات التعاون الأميركي مع الحركة الإسلامية، ولم يكن هذا البونابرت الصغير سوى الشيخ حسن الترابي نفسه، والذي اعتقدت أميركا فيه أنه أكثر القيادات الإسلامية «برغماتية». والشيخ الترابي في الواقع هو كذلك، ولكنه يريد أن يمارس دوره من علٍ. لييس يتابع من جهة وبأكثر من «شريك» من جهة أخرى. فتكررت أمامهما ظاهرة نميري و«الفردية المتعالية» مع فارق الثقافة بين الرجلين.

كان على أميركا أن تصبر، وأن تعمل على «احتواء» النظام و«عزله» وليس «اسقاطه»، ولهذا كانت ضحكة «مادلين اولبرايت المكبوتة» في يوغندا بنهاية العام 1997، فنظام الانقاذ ولكن: من بعد التخلص من سلبياته «من وجه النظر الأميركية» أكثر الأنظمة تأهيلا لتحقيق مبدأ المشاركة الاميركية في القارة الافريقية، وخصوصا ان أكبر مشروع نفطي لبداية القرن الجاري سيمر عبر أنابيب من الخليج إلى المحيط الأطلسي بالأراضي السودانية، وهو خط أنابيب يوازي تمديد الأنابيب من بحر قزوين. وهذا أحد اهم الاهتمامات الأميركية الاستراتيجية في السودان، وتفوق كلفة هذا الخط السوداني/الخليجي/الأطلسي العشرين مليارا من الدولارات،عدا قدرات السودان الأخرى. لذلك ومع «اضطرار» الرئيس الأميركي الإعلان في أغسطس 1993 وضع السودان ضمن قائمة الدول الإرهابية التي تضم كوبا وإيران وليبيا وكوريا الشمالية وسورية، فإن الإدارة الأميركية كانت تمارس «من الباطن» مناورات على قراراتها التي عُوملت بمنطق «صدور الحكم مع وقف التنفيذ».

فترة كلينتون

« حين اتخذ الرئيس كلينتون قراره في أغسطس 1993 بوضع السودان في قائمة الدول الإرهابية كان سفيره في الخرطوم (دونالد باترسون) يردد قبل شهرين في محاضرة له في مركز الدراسات الاستراتيجية في 7 يونيو 1993 ان مصالح اميركا الذاتية في السودان ليست جيو-بوليتيكية او استراتيجية فقط، وهي في كل الأحوال ليست مصالح «آنية» وإنما مصالح على «المدى البعيد»، وما يهمنا على المدى البعيد، هو «ان يكون السودان، كجزء من المنطقتين، العربية والإفريقية مكانا مستقرا».

وعلى رغم أن كلينتون أعلن إغلاق سفارته في الخرطوم في فبراير 1996، وصدور عدة قرارات ضد السودان مع وقف التنفيذ سواء من الكونغرس الاميركي او مجلس الأمن فإن مبعوثي واشنطن لم ينقطعوا عن زيارات متعددة للسودان، منها زيارة نائب مساعد وزير الخارجية «جيري سميث» وإلقائه محاضرة في صيف 1997 في «مركز الدراسات الاستراتيجية» وحضور الرئيس الاميركي السابق «جيمي كارتز» إلى السودان حين توقيع اتفاقات السلام بين الانقاذ وبعض الفصائل الجنوبية المقاتلة في أبريل 1997 والجهود المتواصلة للسفيرين الاميركيين السابقين في السودان وهما «كونتوس» و«بيترسون» اللذان وقفا ضد العقوبات وأكدا عدم وجود أي إرهاصات لانتفاضة شعبية كما تدعي المعارضة السودانية وانها معلومات مضللة تماما، وسارا خطوات أبعد باقتراح ان يتولى «وولتر مونديل» أو «جيمس بيكر» ترتيب العلاقات بين السودان واميركا وتسوية مشكلة الجنوب. وهنا جهود بذلها أكاديميان اميركيان هما تويفي «سوليفان» و«فيل غرام» سواء مع المسئولين في الإدارة الاميركية او الانقاذ، ثم جهود المبعوث الرئاسي السابق هاري جونستون في أغسطس 1999.

لذلك ندرك لماذا لم تُطبق فعليا قرارات مجلس الأمن ومنها القرار رقم 1044 الصادر بتاريخ 31 يناير/كانون الثاني 1996 الذي أدان نظام السودان بالإرهاب، ثم القرار 1054، وأخيرا القرار 1070 في شهر أغسطس من العام نفسه، وكذلك قرارات مجلس النواب رقم 70 والشيوخ رقم 109 ورقم 1453.

ان أهم جلسة اميركية حددت معالم السياسة في السودان تمت في الكونغرس صباح 15 مايو/آيار 1997، وخصصت بكاملها للسودان، وهي التي قررت «سياسة الاحتواء» وليس اسقاط النظام، ولهذا كانت ضحكة «اولبرايت» المكبوتة نهاية العام نفسه في يوغندا. أما ضرب اميركا لمصنع الشفاء السوداني بتاريخ 20 أغسطس 1998، ودفعها مبلغ 20 مليون دولار لدول المواجهة الافريقية حينها مع السودان في نوفمبر 1996 فلم تكن سوى مؤشرات على سياسة «الضغط والاحتواء». فالصواريخ الاميركية لم تستهدف ما هو اهم لدى «الانقاذ» من «مصنع الشفاء» كما ان العشرين مليون دولار سُلمت «عينا ولا حتى «نقدا» وفي شكل أجهزة عسكرية تقليدية لدول الجوار، هي في كل الحالات «عطية مُزين» وليست موازنة مواجهة خصوصا وان كلا من وكيل وزارة الخارجية الاميركية للشئون السياسية، «المستر توماس بيكرينز» ومديرة إدارة شرق إفريقيا السفيرة «إيريل جلاسي» كانا قد أبلغا وزير الخارجية السودانية على هامش اجتماعات (الدورة 52) للأمم المتحدة في ديسمبر 1997 أنه من غير المسموح أميركيا لارتيريا أو اثيوبيا او يوغندا «اجتياز حدودهم لاجتياح دولة أخرى». ولم يتم اجتياح القوات اليوغندية لجنوب السودان لمطاردة المعارضة اليوغندية المسلحة إلا باتفاق ثنائي بين البلدين غير أنه إذا استعصى الاحتواء ما بين «مشاكوس» و«كاليغاري» فإن الغزو للسودان مطروح في مشرقه.

في الشهر نفسه الذي كانت تكثف فيه اميركا جهودها لإنجاز تفاهم مشاكوسي، انعقدت في كاليغاري في كندا قمة الدول الثماني الصناعية الكبرى، وهي الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان وروسيا وإيطاليا وبحضور أربعة من قادة إفريقيا أبرزهم رئيس جنوب إفريقيا ثابومبيكي، وكانت اميركا وراء حضور القادة الأفارقة لتوقيع اتفاق شراكة يبدأ بهم ثم يشمل باقي الدول الإفريقية «السمراء». واهم ما ينص عليه اتفاق الشراكة «المساهمة في حل الصراعات وتحقيق الاستقرار - وإنشاء قوة تدخل عسكري لحفظ السلام في المناطق التي يشوبها التوتر والمنازعات - وتقديم مساعدات اقتصادية ومالية لبرامج التنمية والتجارة الخارجية».

فما تم في مشاكوس هو «بداية»، اكبر من «الانقاذ» واكبر من حركة قرنق. وسبق لي ان ذكرت صراحة قبل عامين تحديدا ان مخططا اميركيا في السودان سينتهي الى تحجيم «اصولية» الانقاذ و«عنصرية» قرنق وفي إطار الوحدة وليس الانفصال (صحيفة الصحافي الدولي -الخرطوم - 29 أغسطس 2000 - العدد 266 - السنة الأولى). وإذا استعصى ذلك فهو «الغزو»، فتعقل قرنق وتعقل الانقاذ

العدد 37 - السبت 12 أكتوبر 2002م الموافق 05 شعبان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً