الصراع بين النخبة والبرلمان ليست مسألة عربية خالصة بل هي اصلا نتاج اختلافات منهجية قامت في الغرب بين المدارس الفكرية.
الليبراليون بداية رفضوا فكرة الانتخابات (البرلمان) انطلاقا من نزعة فوقية تحتقر مساواة صوت الجاهل بالعالم والعارف بالأمي. الديمقراطيون تمسكوا بالانتخاب لانه الوسيلة الافضل لحل الخلافات سلما شرط ان تكون دورية يحترم فيها الغالب المغلوب ولا تلغي الاكثرية حقوق الاقلية. وخضع الليبراليون للامر الواقع وقبلوا بصناديق الاقتراع على رغم قناعاتهم بأن رجال الدولة يختلفون في وظائفهم عن رجال الهيئات المدنية والاهلية.
الصراع بين النخبة (الليبرالية) والبرلمان (الديمقراطية) انتقل لاحقا من المدارس الرأسمالية إلى الاشتراكية. فالاشتراكية كمفهوم مدرسي أميَل إلى «الشعبوية» منها إلى الافكار «النخبوية» الا ان الاخيرة تسللت اليها عبر نظرية «الحزب الثوري» أو «الثوري المحترف» التي صاغها لينين وتحولت لاحقا إلى كارثة سياسية اضرت بمجمل النظرية حين انتقل الشيوعيون من المعارضة إلى الحكم.
وقاد تروتسكي الجيش الاحمر مستخدما القوة العسكرية لحسم التناقض الداخلي. وبالغ رفيق لينين في الاعتماد على الجيش في المعركة السياسية ووصل به الامر إلى حد اعتباره القوة المنظمة القادرة على اختصار الفترة الزمنية للتطور. فالجيش برأي تروتسكي هو البديل المؤقت عن الطبقة العاملة (الضعيفة عدديا وتنظيميا) وهو الحليف المجهز والقوة الحديثة الداعمة للحزب الحديث (جزب الطبقة العاملة). وحين اعترض احد رفاقه وطالب بالتصويت الديمقراطي رد عليه تروتسكي بأن فكرة البرلمان فكرة برجوازية يجب رفضها.
تعرض لينين إلى محاولة اغتيال من قبل يساريين متطرفين أقعدته فترة قصيرة قبل ان يرحل باكرا. وبعد رحيله انقسمت السلطة بين تروتسكي وستالين. وكانت الغلبة لستالين ليس عن طريق التصويت الديمقراطي بل بأسلوب التآمر مستخدما «مكر» الحزب المحترف حاسما الصراع على السلطة لمصلحته. وكانت المجزرة التي ارتكبها الرفاق ضد بعضهم بعضا.
ألقى ستالين القبض على روسيا من خلال الكرملين وبدأ يعيد ترتيب الاتحاد السوفياتي وترسيم حدود الجمهوريات «السوفياتية». ودخلت الدولة نتيجة الاضطراب النظري للنخبة الستالينية في سلسلة تجارب اخضعت الاتحاد السوفياتي لعمليات ترقيع وتجميل وتقسيم وترسيم لحدود الجمهوريات فأسهمت في تفكيك ثقافات وحضارات.
ففي كل فترة كان ستالين (والنخبة الحاكمة معه) يعدل نطرياته السياسية ومفهومه للمسألة القومية. وفي كل تعديل نظري كان يعيد ترتيب الجمهوريات وفق مفهومه الجديد. فمرة يرى ان القومية هي اللغة فيقسم الجمهوريات بحسب اللغة. ومرة يرى ان الجغرافيا الوعاء الطبيعي للقومية فيقسم الجمهوريات على اساس جغرافي. ومرة التاريخ او الثقافة. واحيانا كان يخلط تعريفه الاول بتعريفه الثاني ثم يعيد قراءة التعريف للمسألة القومية فيخلط الشعوب «السوفياتية» من جديد. ولجأت الستالينية إلى تهجير الناس لينسجم التركيب السكاني مع نظريات النخبة.
جلب فكر النخبة الويلات على الاتحاد السوفياتي وسبب لاحقا في انهيار ثورة اكتوبر وكل المفاهيم «المساواتية» التي طرحتها في مواجهة الولايات المتحدة والغرب عموما.
الغرب رفض تلك المبادئ الانسانية والافكار الجميلة وتمسك بالوسيلة أي الانتخاب والعودة إلى صناديق الاقتراع كل فترة ليختار المواطن «النخبة السياسية» التي يريدها. ولهذا السبب نجح في تجاوز الازمات برلمانيا وحلها ديمقراطيا واحدة بعد اخرى بينما تراكمت الازمات عند اتحاد «السوفيات» وحين أراد حلها دفعة واحدة... انهار
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 37 - السبت 12 أكتوبر 2002م الموافق 05 شعبان 1423هـ