يدور لغط كبير عن الانتخابات النيابية التي فتح باب الترشيح لها يوم السبت الماضي.
وما بين مؤيد للدخول في حلبة السباق وبين معارض مقاطع للعملية يبدو الشارع البحريني كمن وضع أمام خيارين أحلاهما مر.
فالمشاركون يرون أن الدخول هو النتيجة الطبيعية لسنوات طويلة من المطالبة بالحياة النيابية حتى ولو لم تكن التجربة متكاملة فإنهم يعتقدون بامكان الاستفادة من الهامش المتاح لتحسين المناخ العام وربما تهيئة الفرصة لإعادة قراءة دستور 2002 أمام المجلس النيابي بهدف العمل على تعديل ما يمكن من مواده بشكل يلبي متطلبات الحد الادنى للمواطنين المتمثلة في إعادة الهيبة للسلطة التشريعية المناطة حكما بالمجلس المنتخب لكنها في هذا الدستور تعرضت للبسر من خلال توزيعها مناصفة بين المجلس المنتخب والمجلس المعيّن (الشورى).
وفي الوقت الذي يتفق فيه المقاطعون على هذه الرؤية، فإنهم يرون أن المشاركة في الانتخابات توفر الارضية اللازمة لإعطاء كل الشرعية لدستور 2002، وهم لذلك يصرون على مقاطعة الانتخابات النيابية بهدف تفويت الفرصة على الاصلاحات العرجاء، كما يحلو لكثير منهم وصفها، ويفضلون عدم الدخول للمجلس حرصا منهم على عدم تحمل وزر تاريخي لن تغفره الأجيال المقبلة بل ستنظر لهم دائما باعتبارهم فرطوا في حقوق المواطنين خلال موافقتهم على انتقاص هذه الحقوق والتنازل عن دستور 73 التعاقدي بين الشعب والحاكم لصالح الدستور المنحة.
وما بين هذا الموقف وذاك يبدو ان الحكومة لا تزال تمسك بمعظم خيوط اللعبة، وهي تصر على عدم كشف كل الاوراق التي يبدها حتى تضمن اقرار ما تريد بأقل الخسائر والتنازلات.
وأمام هذا الوضع البالغ التعقيد تلوح في الافق الكثير من السيناريوهات المحتملة للتعامل مع التعديلات الدستورية التي يجب على الجمعيات السياسية والفعاليات الوطنية وضعها في الحسبان قبل أن تطير الطيور بأرزاقها.
السيناريو الأول:
أن تصر الحكومة على موقفها بأن التعديلات الدستورية التي تم بموجبها إصدار دستور 2002 نهائية وغير قابلة للتراجع أو التعديل، وبالتالي تكرس حال التجاذب السياسي بينها وبين الجمعيات السياسية التي اختارت المقاطعة وربما يؤدي ذلك إلى اختبارات قوة تدفع البلاد ثمنها إذا جاءت خارج قوانين اللعبة السياسية والتوازنات المسموح بها.
السيناريو الثاني:
أن تقوم الحكومة خلال اسبوع فتح باب الترشيح بالإعلان رسميا عن استجابتها لمطلب المعارضة بعرض التعديلات الدستورية على المجلس النيابي بهدف قراءتها واتخاذ القرارات المناسبة حيالها سواء بالتعديل أو الإقرار. وهنا يلعب التوقيت دورا مهما في تحديد الكيفية التي ستتعامل بها الجمعيات المقاطعة مع هذا الإعلان المحتمل، فإذا جاء الإعلان في ملطع اسبوع الترشيح ستكون الفرصة سانحة أمام الجمعيات السياسية لاتخاذ قرار المشاركة وبالتالي تختلف شروط اللعبة السياسية وتنتهي الأزمة.
أمّا إذا جاء الإعلان المحتمل في نهاية اسبوع الترشيح فستكون الجمعيات في حال حيص بيص وبالتالي لا تستطيع إعداد قوائم مناسبة لمرشحيها للمجلس النيابي كما هي ترغب، الأمر الذي قد يربك صفوف الجمعيات السياسية المقاطعة ويؤدي إلى تفكك تحالفها السياسي إذا لم يتم وضع تصور طوارئ لمعالجة مثل هذا السيناريو.
السيناريو الثالث:
أن تعمد الحكومة إلى اعلان نيتها في عرض التعديلات الدستورية على المجلس المنتخب بعد اقفال باب الترشيح للانتخابات مباشرة وهو ما سيضع الجمعيات السياسية في موقف لا تحسد عليه، لأنها لا تستطيع في تلك اللحظة الاستمرار في الدعوة إلى المقاطعة بعد أن سقط مبررها السياسي للمقاطعة، لكنها في الوقت نفسه لا تستطيع المشاركة بمرشحين يمثلونها في المجلس. فقد «سبق السيف العذل» كما يقولون. وهنا فإن اقصى ما تستطيعه الجمعيات السياسية هو التفتيش بين المرشحين عمن يمكن لها أن تنسق معه أو تتقاطع معه في بعض المواقف.
وبكل تأكيد سيؤدي الإرباك إلى عملية فرز جديدة تدخل من خلالها الجمعيات السياسية المقاطعة في حسبة جديدة قد تقود إلى إعادة رسم خريطة التحالفات السياسية مع الجمعيات التي سبق أن قررت المشاركة في الانتخابات.
أن هذا الموقف قد يؤدي إلى زعزعة التحالف القائم بين الجمعيات السياسية المقاطعة ويؤدي أيضا إلى فقدان السيطرة على قواعدها التي من الممكن ان تلجأ إلى البحث عن البدائل المتاحة من دون التزام حقيقي بتوجيهات الجمعيات التي تنتمي إليها. وهنا لابدّ ان تمتلك الجمعيات السياسية المقاطعة رؤية واضحة وبديلا مناسبا هي مطالبة بتدارسه منذ الآن.
السيناريو الرابع:
أن تنتظر الحكومة نتائج الانتخابات النيابية، فإذا وجدت أنها تصب في مصلحتها بشكل أو بآخر، لجأت إلى اعلان عرض التعديلات الدستورية على المجلس النيابي وأخرت تعيين المجلس المعين (الشورى) حتى حين. وعندها ستكتسب التعديلات الدستورية كل القوة الشرعية اللازمة ولن تجد المعارضة الممثلة في الجمعيات السياسية المقاطعة أو المشاركة بدا من الاقرار بها، وبالتالي سيعادد تركيب الخريطة السياسية في البلاد باتجاه العمل على اجراء التعديلات الدستورية من خلال المجلس الوطني المكون من مجلسين بحكم الدستور.
وهو أمر سيكون اكثر صعوبة على القوى السياسية جميعا، لأن التعديل في هذه الحال سيكون من خلال التوافق بين المجلس الوطني وعظمة الملك، وهو ما يتطلب جهودا اكبر بكل تأكيد.
وفي حال حدوث هذا السيناريو فإن على المعارضة التفتيش داخل المجلس النيابي عن من تقترب منه وستكون جهودها لترتيب «لوبي» يدافع عن وجهة نظرها في التعديلات الدستورية صعبة جدا إن لم تكن مستحيلة، وفي الوقت ذاته سوف لن تجد بد من الإقرار بالدستور كما أقره المجلس، وهنا فإن لسان حال الجمعيات سيردد (إذا فات الفوت لا ينفع الصوت).
السيناريو الخامس:
أن تعمد الحكومة إلى اعلان عرض التعديلات الدستورية على المجلس الوطني بغرفتيه (النواب والشورى) بعد ظهور نتائج المجلس النيابي وبعد أن تسرب بعض أو كل الاسماء المرشحة لمجلس الشورى التي قد يكون من بينها رؤساء الجمعيات السياسية والمهنية الرئيسية في البلاد بشكل يوحي بالتوازن القادر على إدخال التعديلات اللازمة على الدستور.
هنا ستقع الجمعيات في مأزق آخر. فهي تريد أن تعاد مناقشة التعديلات الدستورية بشكل ينسجم مع مطالبها في الفصل بين السلطات الثلاث، لكنها في الوقت ذاته محرجة من قبول مبدأ التعيين في مجلس الشورى قبل إجراء الفصل واقعا بين السلطات الثلاث، لأن ذلك قد يدخلها في إشكالات سياسية مع قواعدها التي قد ترى بأن قياداتها لم تتبين مواقفها بدقة ولم تأخذ في الحسبان الاحتمالات الواردة وتضع لها الحلول المناسبة.
الاحتمال الاخير (الحل):
خارج دائرة المألوف والمتوقع من قبل القوى السياسية هناك احتمال أخير هو أن تلجأ الجمعيات السياسية إلى القبول بدخول بعض الشخصيات الوطنية المستقلة دائرة الترشيح للانتخابات النيابية تحسبا لأسوأ الاحتمالات وهذا يتطلب أن تترك الجمعيات المقاطعة الباب مواربا لمرور بعض الفعاليات التي قد تستطيع أن تفعل شيئا في حال اقدمت الحكومة على التعامل مع أي من السيناريوهات المحتملة.
لكن هذا الامر يتطلب ان تنهج الجمعيات السياسية المقاطعة تحديدا ليس نهجا سلميا فحسب بل أن تعمد إلى تأكيد حق الجميع في اتخاذ المواقف السياسية التي يراها مناسبة من دون تخوين لأحد دون ممارسة أية ضغوط سياسية واجتماعية ودينية على المتقدمين للترشيح من خارج إطار الجمعيات السياسية التي هي مطالبة بكل تأكيد بأن تلزم اعضاءها بقراراتها من اجل اثبات تماسكها وصدق مواقفها.
واخيرا... نعتقد أن كلا من الحكومة والمعارضة ممثلة في الجمعيات المشاركة والجمعيات المقاطعة حريصة جميعا على نجاح النهج الإصلاحي لصاحب العظمة وهذا يتطلب ان تتضافر كل الجهود من اجل انجاح التحول نحو البناء الديمقراطي في البلاد.
وإذا كان بعض المنادين بمقاطعة الانتخابات النيابية يرددون بأن المقاطعة هي مشاركة في حد ذاتها في اعتبارها ممارسة لحق القوى والفعاليات السياسية في اتخاذ قرارها السياسي بشكل ديمقراطي، فإن لسان حال البعض الآخر من المنادين بالمشاركة في هذه الانتخابات يردد بأن المشاركة هي مقاطعة في حد ذاتها باعتبارها ممارسة للحق الديمقراطي ذاته ومن اجل ايجاد رديف سياسي داخل المجلس النيابي يتناغم مع المقاطعة من خارج المجلس لاجراء الاصلاحات الدستورية اللازمة ونحن نقول للجميع أن يتخذ الموقف الذي يناسبه لكن احدا ليس من حقه ان يوصم المقاطعين بالتطرف أو المشاركين بالخيانة، لأن الجميع يعمل من اجل الصالح العام وصدق من قال: «رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب». ويبقى السؤال مفتوحا كيف ستتعامل المعارضة مع هذه السيناريوهات في حال وقوع أي منها؟ هذا ما ينتظر الجميع جوابه في الايام المقبلة
إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"العدد 11 - الإثنين 16 سبتمبر 2002م الموافق 09 رجب 1423هـ