أصدر الفنان عباس يوسف كتابه الثاني في التشكيل والذي عنونه «بلون ماء النار، برذاذ حليب المعدن» في 267 صفحة من القطاع المتوسط، عن دار الانتشار العربي، ضمن مشروع النشر المشترك لوزارة الثقافة والإعلام والتراث الوطني، تزيّن غلاف الكتاب برسم طفلة في أرجوحتها لصبا يوسف ابنة المؤلف، وخط عنوان الكتاب الفنان السوداني تاج السر حسن.
أهدى يوسف الكتاب لأمه إذ أخذه الإهداء لأن يتذكر يومه المدرسي الأول «سألني المشرف الإداري ما اسمك فأجبته عباس زينب يعقوب... فإلى أمي زينب لون الماء والنار» هكذا أهدى عباس يوسف كتابه لأمه متذكرا تلك اللحظات حيث بساطة الطفولة وبراءتها حين تكون الأم هي كل العالم بالنسبة للطفل، وربما بهذه البراءة مازال عباس يوسف يحاول أن يبصر الأشياء ليراها كما يراها هو أحيانا، ولعله في هذا السياق أيضا صنع من لوحة طفلته صبا غلافا للكتاب، ربما ليرد الجميل للطفولة البيضاء التي منحته هذه العين البريئة.
أو ليرد الجميل للمرأة التي بكل بساطة نسب نفسه إليها متجاوزا النسب الأبوي الذي تمنحه إياه ثقافة ذكورية ربما ما زالت في تلك اللحظة لم تتشربه بعد، واعترافا بفضلها هاهنا وفي لحظة الإهداء أعاد علينا ما قاله في طفولته «عباس زينب يعقوب» وهي التي منحته حياة لها لونها الخاص عنده، ومنحته بصيرة فنية بقرآنها الصباحي مع الأطفال كانت مشعلة بصيرته الفنية ببقايا صور خط وزخارف مازالت «تتخطرف أمامه» منذ نعومة أظفاره حتى هذه اللحظة، فحين يستدعيه السؤال عن طفولة فنية لا يملك إلا أن يستدعي اللون الأخضر والحضرة البهية والمصاحف الصغيرة «جزء عم» في أيدي الأطفال بين يدي أمه، وقد تزينت بما تخيطه الأمهات من أغلفة قماشية مزينة ببهاء زخرفة جميلة مع بساطتها.
حين يعنون عباس يوسف كتابه «بلون ماء النار، برذاذ حليب المعدن» فإنه يستدعينا لقراء الانحراف الاستعاري في العمل الفني في «ماء النار وحليب المعدن» فثمة إشعال لموتين الأول حين يُصب ماء النار على الرخام ليصنع منه الخطاط لوحته، والآخر ربما ليغرق في الاستعارة بعيدا فيجمع بين الحليب والمعدن حين يلتذ النحات بطرق الحديد حتى استحلابه مضفيا عليه شيئا من الأناسة والألفة.
ربما هكذا يلذ للفنان عباس يوسف أن يحلب الماء من النار أن يستخرج النقيض من نقيضه كعملية إخراج الموت من الحياة، وأن يستخرج البرودة من الحرارة، الانطفاء من الاشتعال والاشتعال من الانطفاء مرة ثانية، فالماء حياة والنار موت وهكذا لا تنتهي الدلالات حين يقوم الفنان بصب رؤيته الحية على المادة الميتة فيحييها فتتحول الأشياء إلى حياة وخصوصا حين يتحول الحجر الموات إلى صورة تنضح بالحياة وهاهنا لن ينتهي بنا التأويل إلا في عمق المعنى.
وقد احتوى الكتاب على مجموعة من المقالات ترك الكاتب فيها لقلبه أن يقول ما يشاء، وترك لمخيلته أن تذهب حيث يلذ لها الذهاب، فكأن ثمة نبرة سردية تتحرك لتشعل الحرف كلما توقد المعنى، وكأن الذات تتقافز في محطات عدة لتقرأ ما تشاء وكيفما تشاء.
ففي لون ماء النار يقرأ الحرف وهو الخطاط المولع بالحرف وأشكاله « قال لي ما الحرف... الحرف حياة الحرف ماء مداد حب، الحرف أبجدية الحرف عالم مفتوح».
وتتوالى التعريفات للأشياء بعين بريئة فتتوالى المقالات، اللوحة كائن يولد من رحم التجربة... اللوحة كائن لم يخرج إلى الوجود، اللوحة كائن عصي على الاصطياد، رمز... شاطئ... اللوحة عالم لم يخلق بعد، وتتوالى التعريفات، اللوحة ترف، فجر، قصب، عزف، هدب، تقية، حضرة، مس، بحر،... فيقف مع المرسم ومع الفرشاة التي هي عنده، ملهاة، كذبة، مرسم، قلب، حب؛ ومع رقة التشكيل ورفقة الحرف ورفقة التأويل... معرفا إياهم واحدا واحدا كما يراهم بعين المخيلة القريبة من القلب البريئة حين الحقيقة، فيحضر قاسم حداد ويحضر أمين صالح ويحضر رفيق دربه عبدالجبار الغضبان وخصوصا عند الحديث عن الذات، ربما هكذا أراد عباس يوسف أن يوقد الاسم بين الأسماء ويستدفئ في غربة التعريف.
وفي الكتاب ثمة قراءات فنية مختلفة لمجموعة من الفنانين من خلال أعمالهم التشكيلية، فقد كان يدأب الفنان عباس يوسف في متابعتها أولا بأول من غير تعب وفي هدوء تام ومن غير جلبة أو ضجيج كما يلذ له، وكان طوال فترات الصمت والخمول يراكم الحرف على الحرف والمقال على المقال حتى اجتمع لديه ما لم يجتمع لغيره.
كما في الكتاب مقاطع من حوارات لمجموعة من الفنانين كان قد أجراها يوسف معهم حين عبروا بمنجزاتهم في ساحة التشكيل في البحرين، أو شهادات كتبها يوسف متزامنة مع بعض المعارض فنشرها في حينها في المجلات والملاحق الثقافية الفنية وقد تصرف فيها الفنان وأعاد حبكتها ليشعلها في سياق مقالاته في كتاب ناجز فما زاد هذا التصرف في أصل المقاطع الحوارية والشهادات المقتطعةإلا ألقا وبهاءا لتعود تشتعل مع بنية الكتاب في شكله السردي أو شكله المقالي لإبراز أهم الرؤى التي وجدها عباس في قراءته لنتاج هؤلاء الفنانين أو مسيرتهم الفنية.
كما في الكتاب سيرة مرمزة لحكايته في مرسمه المدرسي مع طلابه وهو سرد مفتوح على كل الاحتمالات كما يشير ذات مقالٍ فرب سؤال عابر من طالب عابر فتح استعارة ورب نظرة أو قدت مقالا ورب نكتة أشعلت فكرة، ورب وقفة انتظار نحتت استعارة بعيدة التأويل كما هي عبارة «كبغل تصقله الشمس» وربما لكل استعارة عند عباس حكاية مدرسية ملفوفة بأستار سمكية من التذكر مع شيء من التشاؤم الممزوج بالآهات والابتسامة الخاملة.
هكذا يلذ لعباس يوسف أن يهدينا كتابه الجديد مستحضرا أصدقاء الفتنة وقد زينوا الجدران بالمعنى فسبكهم مع لوحاتهم في جمل قصيرة كأيقونات ليقرأهم كما تلذ له القراءة، فيكون المحروس ومضة ضوء مسترخية، وموسى عمر يستفز مدنه الحالمة، محمد القاسمي مسافر في حالات مختلفة، ولبنى الأمين بساطة شكل، وعلي طالب انعتاق للروح، والغزاوي بريق لون... شفيف روح، وعبدالرحيم شريف البحث عن عنوان، إلى آخر الأسماء التي أثارت جملا أوقدها معنى وأوقدنا بها تأويلا.
العدد 2505 - الأربعاء 15 يوليو 2009م الموافق 22 رجب 1430هـ