قدر البنك الدولي تراجع حجم الأموال التي يحولها المغتربون من الدول النامية إلى أوطانهم بنسبة 7.3 في المئة. وتوقع تقرير صدر مؤخرا عن البنك هذا العام، أن هذا المبلغ الذي سيصل، هذا العام إلى 304 مليارات دولار فقط، بعد أن كان 328 مليارا في العام 2008، سيلحق ضررا بالغا بالبلدان الفقيرة.
ليست هذه المرة الأولى التي تصدر عن البنك الدولي مثل هذه التقارير المتشائمة التي حملت، في تقارير سابقة، توقعات بتراجعات بنسبة 5 في المئة.
وكما يبدو فإن العديد من البلدان العربية، وخاصة غير النفطية، سيمسها هذا التراجع. فدولة مثل الأردن، وكما يقول تقرير صادر عن البنك المركزي الأردني، هبطت «قيمة تحويلات المغتربين العاملين في الخارج خلال فترة الخمسة شهور الأولى من العام الجاري 2009، فبلغت ما يقرب من 995 مليون دينار أردني وبما يعادل نحو 1.4 مليار دولار أميركي مقابل نحو 1019 مليون دينار خلال الفترة المماثلة من العام 2008 بتراجع بلغ مقداره نحو 24 مليون دينار وبنسبة تراجع بلغت 2.4 في المئة.
لبنان هي دولة عربية أخرى حذرت من احتمال تراجع تحويلات مغتربيها، وجاء ذلك على لسان وزير الاقتصاد والتجارة اللبناني محمد الصفدي في تصريح خصّ به وكالة الأنباء الكويتية أكد فيه أن لبنان «قد يتأثر في المستقبل بنتائج الأزمة العالمية في ضوء احتمال تراجع حجم التحويلات المالية التي تصل إليه من المغتربين، متوقعا أن يتراجع حجم هذه التحويلات التي تبلغ 5 مليارات دولار في السنة بشكل ملحوظ». هذا الأمر أكده أيضا توقع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي توقع قبل أقل من شهر أن «تتراجع نسبة تحاويل اللبنانيين العاملين في الخليج إلى بلدهم الأم عما كانت عليه في الأعوام السابقة، وخصوصا أن البعض منهم سيفقد وظائفه في الخارج».
الأولى هي أن بعض الدول العربية تتبوأ مراكز دولية متقدمة عندما يتعلق الأمر بحجم مثل هذه التحويلات، فكما تشير بعض مصادر البنك الدولي، ووفقا لإحصاءات العام 2207، احتلت مصر المركز السادس عالميا، ووصلت تحويلات المغتربين المصريين في العام ذاته 5.9 مليارات دولار أميركي في العام 2007 مقارنة مع 5.9 مليارات دولار في العام 2006. وقد سبقتها إلى ذلك بلدان مثل الهند بمبلغ 27 مليار دولار ثم الصين التي احتلت المركز الثاني بما قيمته 25.7 مليار دولار، وجاءت بعدها المغرب 5.7 مليار دولار، ولبنان 5.5 مليار دولار.
الثانية أن هذه المبالغ التي يحولها المغتربون تشكل ركيزة أساسية من ركائز الدخل القومي، إن كان من حيث قدرتها على تعزيز فرص الاستثمار في الوطن الأم، كما هو الحال في اليمن، الذي تحاول أجهزة الدولة إزالة كل العقبات، كما تقول تقارير البنك المركزي اليمني، وبذل المساعي الحثيثة التي يعلن عنها المسئولون الحكوميون في اليمن «لاستقطاب رؤوس أموال أبنائه المغتربين والمهاجرين للاستثمار في الداخل، بهدف تشجيع مشروعات التنمية في القطاعات المختلفة لتشجيع هذه الشريحة من المواطنين على الاستثمار في الداخل وهو ما تؤكده حجم استثماراتهم الداخلية قياسا بحجم أعمالهم واستثماراتهم في الخارج».
وهو الأمر الذي دفع الحكومة اليمنية أيضا ممثلة بوزارة التخطيط والتعاون الدولي إلى مراجعة البرنامج الاستثماري للخطة الخمسية الثالثة 2006- 2010، من أجل «استكمال الإجراءات العملية الهادفة إلى تعزيز وتطوير وتهيئة البيئة الاستثمارية اليمنية الجاذبة من خلال استكمال تكوين أنظمة إدارية محفزة لعملية تطبيق التشريعات بكفاءة عالية في ظل بيئة تنافسية... والاستفادة من عوائد خدمات العمل كتحويلات المغتربين وتعزيز الاحتياطات الرسمية، وتحقيق استقرار في ميزان المدفوعات، وتوفير موارد إضافية للاستثمار المحلي بالطبع، لكن هناك مسألة ثالثة، قد تبدو هامشية، لكن لابد من التطرق لها، وهي ارتباط تنامي تلك التحويلات بتشكل سوق صرف عملات «سوداء» على هامش السوق الرسمية، وهو أمر يضر كثيرا بالاقتصاد الوطني، وخصوصا فيما يتعلق بأسعار صرف العملة الوطنية كما هو الحال في دولة عربية مثل الجزائر التي تشكو مؤسساتها الرسمية من وصول «قيمة الأورو الواحد يساوي في البنك 102 دينار في حين يصل في السوق السوداء إلى 110، وهو ما يؤكد تراجع كبير في فارق الصرف بين البنوك والسوق السوداء».
من كل ذلك نخلص، إلى أنه وعلى الرغم من تراجع قيمة مبالغ المغتربين، إلا أنها تبقى في نهاية المطاف قناة مهمة من قنوات التنمية، لكن ما تشكو منه تلك الأموال، هو انعدام أو تقلص فرص الاستثمار أمامها، الأمر الذي يحصرها في زاوية ضيقة لا تتجاوز توفير بعض الكماليات الاستهلاكية لأسرها، أو إهدارها في مشروعات هامشية ذات طابع استهلاكي هي الأخرى، يكون مردودها كبيرا على الأفراد ومحدودا عندما تقاس بما يمكن أن تقدمه للاقتصاد الوطني.
الانتقال من هذه الحالة الهامشية الضيقة، إلى المساهمة الاستراتيجية الرحبة، تحتاج أول ما تحتاج إليه درجة عالية من الشفافية، مصحوبة بدرجة متقدمة من الحوكمة، سواء في مؤسسات الدولة أو شركات القطاع الخاص. وفي غياب مثل هذه الرؤية، ستواصل تلك الأموال بحثها عن فرص استثمارية خارج الوطن، طالما عجز الوطن عن إغرائها أولا واحتضانها ثانيا.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2504 - الثلثاء 14 يوليو 2009م الموافق 21 رجب 1430هـ