أثارت الحادثة الدامية المؤلمة، التي تعرضت لها السيدة المصرية مروى الشربيني (32 عاما) التي أصيبت بطعنات سكين قاتلة، بسبب ارتداء الحجاب، على يد شاب ألماني عنصري متهور (28 عاما) في إحدى قاعات محاكم مدينة درسدن في مقاطعة سكسونيا (شرقي ألمانيا) موجة حزن عميقة في نفوس أكثر من 4 ملايين مهاجر في ألمانيا، إضافة إلى جموع الشعب الألماني، كما عبّر عن ذلك وزير العدل في حكومة مقاطعة سكسونيا.
هذه الحادثة الفضيعة، التي وصفها أحد الحقوقيين الألمان بأنها «أصبحت وصمة عار» بالنسبة إلى الحريات واحترام حقوق الأقليات في ألمانيا، لم تكن في كل الأحوال مجرد صدفة أو محاولة فردية من قبل شاب متهور حاول الإساءة إلى الإسلام والمهاجرين المسلمين في ألمانيا، كما ادعى البعض ذلك، إنما هي من دون شك، ترتبط بإرث تاريخي، متجدر في العنصرية والشوفينية التي كانت راسخة في البلاد، منذ بدايات العهد النازي، الذي أسس وترعرع، على تكريس وتجذير نظرية «الانتقاء العرقي» التي تعني في الأساس كراهية الأعراق الأخرى غير الآرية، وتخليص ألمانيا من الأجانب وتحميلهم مسئولية الأوجاع الاقتصادية والاجتماعية، التي عانت منها ألمانيا، قبل الحرب العالمية الأولى وما بعدها.
ضعفت هذه النظرية، بعد هزيمة ألمانيا في الحرب على أيادي الحلفاء، وانتصار الديمقراطية وتحطيم صورة «النازي التاريخي» الألماني الذي لا يقهر، رغم التشطير الذي تعرضت له البلاد حينذاك، والذي أفضى إلى تقاسم المنتصرين للتراب الألماني، بين نظامين متنافرين (الامبريالية العالمية والاشتراكية الشيوعية) لكن بقايا من اعتنقها من النازيين، ظلوا يروجون لبعثها من جديد، وبعد قيام الوحدة الألمانية في العام 1989، استنهضت القوى العنصرية والنازية مختلف قواها، وسعت لترتيب أوضاعها ولملمة صفوفها لاستعادة ما ظلت تصفه بـ «مجد النازية الهتلرية»، وكان الشطر الشرقي «جمهورية ألمانيا الديمقراطية» التي خرجت من عباءة النظام الشمولي الشيوعي الصارم، الأشد تطرفا في روح الكراهية والتعصب والعنصرية والنازية تجاه القوميات العرقية الأجنبية، من خلال مجاميع واسعة من الشباب الألمان، الذين أحبطت أمانيهم وطموحاتهم في مجتمع الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية بعد الوحدة السريعة، حيث ارتفعت في صفوفهم بمستويات عالية نسبة البطالة ومختلف صنوف التمييز الطبقي وغلاء الأسعار وغربة السياسة والاقتصاد، مما سبب لغالبيتهم بعض الأمراض النفسية الشديدة، إذ لم تكن كل هذه المظاهر السالبة مألوفة في حياتهم بشكل واضح، في ظل حقبة الحكم الشمولي الشيوعي، التي استمرت زهاء أربعة عقود ونيف، والذي كان يرعى بشكل كامل مصالح الطبقة العاملة ويوفر لكافة المواطنين العمل والغذاء والدواء والتعليم والصحة والمسكن الملائم بأسعار قد تكون رمزية وأخرى مجانية.
وخلال السنوات الأخيرة، ظهرت هناك في مختلف المقاطعات الألمانية (الشرقية والغربية) على حد سواء، حركات سياسية واجتماعية وعقائدية متعددة، أخذت تمارس التحريض على العنف وكراهية الأجانب من مختلف القوميات والمذاهب الدينية، وبخاصة المسلمين، حتى إن بعضها صار يجاهر بشكل صريح بـ «بعث التراث النازي»، وكل هذه الحركات تشكل بحسب تقديرات المراقبين أكثر من 23 في المئة من القوة السياسية والاجتماعية في ألمانيا، وأن بعضها جعل الأبواب كلها مشرعة لقواعده وأنصاره، من أجل تعميم الفوضى والتخريب والاعتداء على المهاجرين، وخصوصا مراكز إقامة اللاجئين، حيث انتهى ذلك بالعديد منهم إلى القتل والتهجير القسري.
الذي حدث بالأمس القريب، ضد المهاجرة المرحومة مروى الشربيني «شهيدة الحجاب»، كما وصفتها الصحافة المصرية، يعطي انطباعا بأن مظاهر العنصرية والنازية الجديدة، ليست مجرد أوضاع عابرة ومن فعل مجاميع شابة ومتهورة، كما كانت تصف ذلك بيانات بعض الأحزاب السياسية وأيضا الحكومة الألمانية، التي أصدرت بيانا مقتضبا تستنكر فيه هذه الجريمة البشعة، أو الطريقة المتساهلة التي تعاملت بها وسائل الإعلام الألمانية تجاه جريمة ارتكبت في عقر دار القضاة الألماني، أو بسبب فوضى شباب مراهقين ضاقوا ذرعا بمرارة العطالة عن العمل وضياع المستقبل، إنما هي نتيجة موروث اجتماعي شديد التعصب، ظل يتمسك به القوميون الألمان، وظل يتمدد بقوة، طوال السنوات التي بلغت فيها ذروة الاقتصاد الألماني المنهار بعد الوحدة، وعجز الدولة عن تأمين العمل لأكثر من أربعة ملايين مواطن ألماني، وتأمين النهوض الاجتماعي، والإحباط الناتج عن التفاوت الطبقي بين أبناء المقاطعات الألمانية (الغربية والشرقية)، والتصدي للانهيارات الاقتصادية التي تسببت بها الأزمة المالية العالمية.
إقرأ أيضا لـ "هاني الريس"العدد 2504 - الثلثاء 14 يوليو 2009م الموافق 21 رجب 1430هـ