لا تهمنا كثيرا النتائج التي ستنتهي إليها خلافات الرئيس الأميركي مع الكونغرس الأميركي بشأن خطته لإخراج الاقتصاد الأميركي من غرفة الإنعاش التي زجه فيها منذ أكثر من عامين، فهذا شأن أميركي بحت، و «أهل مكة أدرى بشعابها»، رغم شكوك من يتابع عن كثب، تطورات ذلك الاقتصاد منذ دخوله في نفق «أزمة الرهونات العقارية» في قدرة الـ 700 مليار دولار التي طلب بوش تخصيصها لإنجاح تلك الخطة على إخراج الولايات المتحدة من عنق زجاجة تلك الأزمة المستفحلة، التي لا ينبغي أن تخفي، أزمة اقتصادها البنيوية، تلك التحسنات الطفيفة التي طرأت على أسعار أسهم سوقي «داو جونز» و «ناسدك».
ولعل في مناشدة وزير الخزانة الأميركي هنري بولسون، ممثلي البنوك الأميركية بالإسراع في توفير هذا المبلغ، لأن أي «تأخير في تنفيذ خطة الإنقاذ البالغة 700 مليار دولار يضع مجمل الاقتصاد الأميركي في خطر»، مؤشر قوي على عمق تلك الأزمة وصعوبة الحد من تدهورها، والتي عبّر عن عمقها أيضا أعضاء في الكونغرس الأميركي، في أعقاب انفضاض جلسة لمجلس الشيوخ استمرت خمس ساعات، ناقش الأعضاء خلالها الجوانب المختلفة المتعلقة بالخطة، مبدين شكوكهم القوية حيال تلك الخطة لإنقاذ النظام المصرفي الأميركي. مطالبين بالحصول على «تأكيدات وضمانات بأن الخطة ستفيد بالفعل أصحاب المنازل الأميركيين العاديين، بالإضافة إلى الفائدة التي ستقدمها لوول ستريت».
كل تلك التداعيات هي قضايا أميركية محظة، لكن الأمر الذي يثير اهتمام اقتصاديي العالم الثالث ودوله النامية هي تلك الانعكاسات السلبية التي سيتركها استمرار تلك الأزمة على اقتصاديات تلك الدول، آخذين في عين الاعتبار الأمور التالية:
1. سيطرة الاقتصاد الأميركي، حتى اليوم، على الأسواق المالية، واستمرار حيازة الدولار الأميركي، كعملة، على نسبة عالية من التحويلات المالية العالمية؛ الأمر الذي من شأنه نقل أزمة السوق الأميركية ومعها أزمة الدولار، إلى أسواق العالم الثالث. لذا، وبينما، يتحمل الاقتصاد الأميركي، أكثر من سواه، هزات اقتصادية، حتى في حال استمرارها فترة زمنية طويلة نسبيا، كما نشاهده اليوم، يصعب على أسواق نامية أن تصمد في وجه أية أزمة عالمية من نمط وعمق تلك المتوقعة في حال استمرار الأزمة الأميركية، أو انهيار أسواق الولايات المتحدة.
2. معاناة الدول النامية ذاتها من أزماتها الاقتصادية المحلية، وعلاقة تلك الأزمة بالحالة المتعثرة التي يعاني منها الاقتصاد الأميركي، وهذه العلاقة أشار إليها بوضوح تام، قبل أيام، رئيس البنك الدولي روبرت زوليك في كلمته التي ألقاها أمام منتدى للأعمال المنعقد على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، حين حذر من «الضرر الاقتصادي الذي قد يلحق بالدول النامية من جراء الأزمة المالية وخاصة أن تلك الدول تعاني بشدة من ارتفاع أسعار الغذاء والوقود». ونقلت «رويترز» عن زوليك قوله: «إن الكثير من الدول النامية تواجه بالفعل ضغطا على موازين المدفوعات نظرا إلى أن الأسعار المرتفعة تؤدي إلى تضخم فواتير الواردات». ولم يخفِ زوليك قلقه «إزاء الآثار المترتبة على هذه الأزمة» والتي قد تعرض الدول النامية لظروف أشد صعوبة.
3. تزايد حدة الفقر في الدول النامية، وتنامي حاجتها إلى المساعدات، بسبب استغلال الدول الغنية لموارد الأولى الطبيعية دون دفع فواتير عادلة لأثمانها، الأمر الذي أدى إلى تفاقم العجز في موازناتها من جراء ما أصبح يطلق عليه «الديون الإيكولوجية المتراكمة على الدول الغنية»، والتي هي نتيجة استغلال الدول الموارد الطبيعية في دول فقيرة مثل إفريقيا، التي أخضعت للتخلف، وأصبحت غير قادرة على الخروج من حلقة الفقر، وترسخت من جراء ذلك حاجتها إلى المزيد من المساعدات، التي لم يعد في وسع الدول الغنية من أمثال الولايات المتحدة، هذا إذا افترضنا رغبتها في تقديم المساعدات، تحمل تبعاتها نظرا إلى الأزمة الاقتصادية التي تمر بها أسواقها. وقد كشفت دراسة قامت بها منظمات، لمكافحة الفقر واستئصاله في العالم، ومن أجل تحقيق أهداف الألفية التي أقرتها الأمم المتحدة في العام 2000، وتطلق على نفسها «تحالف 2015»، أن المفوضية الأوروبية، فما بالك بأميركا، «قد خفضت معوناتها للدول الأقل نموا والأكثر فقرا، كما قلصت مساعداتها للتعليم الابتدائي في الدول النامية، من 4 في المئة في العام 2000 إلى 1.6 في المئة في 2006.
وإذا أخذنا في الحسبان توقعات صندوق النقد الدولي بتباطؤ النمو العالمي في العام 2008 إلى نحو 3 في المئة من 5 في المئة في العام الماضي، ليس في وسعنا أن نحافظ على أية نظرة تفاؤلية تدفعنا للاعتقاد بقدرة الولايات المتحدة على الخروج سريعا من أزمتها، وبالتالي، فمن حق أولئك الاقتصاديين المتشائمين من المستقبل المظلم الذي ينتظر اقتصاديات الدول النامية أن يدعوا جديا لإعادة الحياة إلى جهود حوارات دول الجنوب وأخرى غيرها ودعم مساعي إعادة النظر في إمكانات تطويرها. فمثل هذه الدعوات من شأنها أن تقود إلى تقليص تأثر دولنا النامية بأية أزمات تعصف بأسواق الدول الغنية، وإن كان من المبكر التفاؤل بوضع حد لها.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2213 - الجمعة 26 سبتمبر 2008م الموافق 25 رمضان 1429هـ