اليوم موعد الذكرى الثالثة للعدوان الإسرائيلي المدعوم أميركيا على لبنان. وتأتي المناسبة هذه المرة في ظروف شهدت تحولات دولية وإقليمية ومحلية و«شرق أوسطية» أخذت ترتسم معالمها الغامضة في أكثر من مكان.
الخبر الجيد والأهم دوليا خروج جورج بوش و«تيار المحافظين الجدد» من البيت الأبيض. فهذا المتغير شكل علامة فارقة عن الفترة السابقة حتى لو لم ينجح الرئيس باراك أوباما في حل مشكلة واحدة من ملفات العالم والمنطقة. التغيير لم يعدل حتى الآن الاستراتيجية الأميركية لكنه على الأقل كبح عجلاتها ودفعها باتجاه الانتقال من الهجوم (التقويض) إلى التموضع وإعادة قراءة الملفات السياسية بأسلوب مختلف عن سلفه.
عهد بوش اتسم بصفات هوجاء استخدمت القوة العسكرية بذريعة مكافحة الإرهاب ما أدى إلى انتهاج لغة حربية في التعامل مع مختلف القضايا العادلة. وحصل في ذاك العهد ما حصل وكان لبنان من ضحايا تلك الفترة. ولم تتوقف سياسة التدمير المنهجي حتى اللحظات الأخيرة إذ أنهى بوش عهده بهجوم مبرمج على قطاع غزة أنتج اتفاقية أمنية مع «إسرائيل» أثارت غضب مصر من ارتداداتها السلبية ومخاطرها على سيادتها الوطنية.
الخبر العاطل والخطير إقليميا كان نجاح «تيار المحافظين الجدد» الصهيوني في الانتخابات النيابية الإسرائيلية. فالقوى المتطرفة في الدولة العبرية استثمرت نتائج حرب التقويض على قطاع غزة لمصلحتها ونجحت في توظيف ارتداداتها المحلية لتحسين مواقعها السياسية في معركة التنافس مع حزب «كاديما» وانتهت الجولة بفوز أقصى التطرف بغالبية المقاعد وتشكيله حكومة بقيادة الثنائي نتنياهو - ليبرمان ترفض الحد الأدنى من متطلبات التفاوض والسلام.
المتغير الذي حصل في «إسرائيل» وضع المنطقة أمام استحقاقات تفتح الأبواب أمام مواجهات ساخنة سياسية وربما عسكرية في اعتبار أن حكومة أقصى التطرف تعتمد في برنامجها على تطوير حركة الاستيطان وتوسيع دائرة المستوطنات في جانب، وترى في جانب آخر أن الملف النووي الإيراني يأتي على رأس قائمة أولوياتها. ومخاطر البرنامج الإسرائيلي في حال فشلت إدارة أوباما في السيطرة عليه أنه يضع المنطقة في دائرة التوتر الدائم ويعطل عليها إمكانات الدفع باتجاه التسوية السلمية.
الخبر اللبناني وهو أقل أهمية من المتحول الأميركي والمتغير الإسرائيلي يتركز على تجديد قوى 14 آذار فوزها في الانتخابات النيابية. فالمعركة التي حصلت في 7 يونيو/ حزيران الماضي أدت إلى حصد 14 آذار غالبية نسبية أعطتها قوة ترجيحيه في وجه 8 آذار المنافسة. وجاءت هذه النتيجة البرلمانية (71 مقعدا ضد 57) لتعيد ترسيم خريطة طريق للتوازن الإقليمي ومواقع الأطراف في صوغ الهيئة السياسية للحكومة اللبنانية.
ساحة بلاد الأرز ليست مهمة بحد ذاتها ولكنها تحتل خصوصية إقليمية في رصد موازين القوى وتحديد توجهات المنطقة في مجرى تحولات دولية أخذت تتحرك باتجاه «الدبلوماسية الذكية» و«القوة الناعمة» و«اليد الممدودة» و«مفاوضات وجها لوجه» و«الاحترام المتبادل». وكل هذه العناوين التي استبدلت شعارات عهد بوش (الضربات الاستباقية والفوضى البناء ومحور الشر) تشكل معطيات سياسية مؤثرة وقوة مضافة في إطار توازنات المنطقة.
لحظة انتظارية
«الشرق الأوسط» الآن يمر في فترة نقاهة وإعادة تموضع ولحظة انتظارية تحتضن احتمالات انشطارية بين تيار يعمل على التطبيع وآخر يدفع باتجاه التقويض. وغموض الصورة يرجع إلى عاملين: الأول إسرائيلي بسبب فوز «تيار المحافظين الجدد» الصهيوني في الانتخابات النيابية. والثاني إيراني بسبب عودة رئيس الأمر الواقع محمود أحمدي نجاد إلى موقعه في السلطة تحت وابل من الشكوك المحاطة بإعلان فوزه.
أحمدي نجاد يمثل ايديولوجيا «تيار المحافظين الجدد» في إيران. وهذا الأمر يشكل بحد ذاته مجموعة حيثيات سياسية تنتظر هدوء العاصفة في طهران حتى تستقر وتتبلور معالم خطابه «الطاووسي» وطبيعته في المرحلة المقبلة من عهده.
اللحظة الانتظارية التي يمر بها «الشرق الأوسط» تفسر إلى حد كبير ذاك الجمود السياسي سواء على مستوى ملف الحوار الفلسطيني - الفلسطيني أو ملف المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية. واللحظة الانتظارية توضح أيضا أسباب ذاك الجمود الذي يحيط بتشكيل الحكومة اللبنانية وقنوات الاتصال بين بيروت ودمشق أو خطوط التواصل بين 14 آذار و8 آذار.
هناك خطوات حذرة في مختلف الاتجاهات. إدارة أوباما تعتمد سياسة ناعمة في مخاطبة تل أبيب بشأن تجميد المستوطنات وطهران بشأن الملف النووي. والقيادة السورية حذرة في التعامل مع الملفين اللبناني والفلسطيني لأنها تنتظر الانفراج في أزمة الرئاسة الإيرانية والسلوك الذي يريد أحمدي نجاد اتباعه بعد أن يقسم اليمين في تلك الفترة المحددة بين 26 يوليو/ تموز الجاري و20 أغسطس/ آب المقبل.
الحذر والتردد والجمود كلها مؤشرات تدل على غموض معالم اللحظة الانتظارية وهذا ما يمكن ملاحظته من مراقبة ملف الاتصالات والتشكيلات المقترحة لتأليف الحكومة اللبنانية.
لبنان اليوم يعيش ذكرى العدوان الذي أسفر عسكريا عن توازن سلبي في معادلة القوة. تل أبيب التي تلقت صفعة ارتجاجية ارتدت عليها في الداخل وفرضت إعادة هيكلة قواتها العسكرية وهي تحاول الخروج من تداعياتها بتصعيد خطاب التهديد والوعيد والانتقام من بلاد الأرز دولة ومقاومة معا ومن دون تمييز بين 14 و8 آذار. وبيروت لا تزال تعمل على استكمال ورشة إعادة إعمار ما دمره العدوان الذي فشل في الاحتلال ونجح في قتل الرجال والنساء والشيوخ والأطفال وتقطيع أوصال الجسور والمؤسسات والمدارس والمستشفيات والمصانع ومحطات الكهرباء والمستودعات ومراكز النقل والمطارات والموانئ.
التوازن السلبي في معادلة القوة يعني استراتيجيا أن جبهة لبنان لا تزال مكشوفة دوليا وإقليميا ومفتوحة على احتمالي التطبيع أو التقويض. حتى الآن مثلا لم يتخذ مجلس الأمن قرار وقف إطلاق النار في اعتبار أن 1701 يشتمل على فقرة تجميد العمليات العسكرية وهذا يعني أن احتمال عودة المجابهة (إطلاق النار) واردة حين تأتي اللحظة.
اللحظة انتظارية وهي غير محسومة ولا تزال غامضة حتى تتوضح معالم الصورة الدولية والإقليمية في «الشرق الأوسط». ولبنان الذي احتفل اليوم بالذكرى الثالثة للعدوان الإسرائيلي لم يخرج بعد من عنق الزجاجة ويبدو أن شعبه عليه الانتظار سنة إضافية للتعرف على خريطة الطريق وتضاريسها وتضاعيفها وألوانها
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2501 - السبت 11 يوليو 2009م الموافق 18 رجب 1430هـ