اختيار المترشح الجمهوري للرئاسة جون ماكين حاكمة ولاية ألاسكا سارة بالين لمنصب نائب الرئيس حسم بشكل واضح خياراته السياسية. فالمترشح ماكين يدعم توجه الحزب الجمهوري نحو تأكيد الاستمرار في استراتيجية سلفه جورج بوش الابن. فالحاكمة تعتبر متطرفة في مواقفها الأيديولوجية المحافظة، فهي تدعم مؤسسات التصنيع الحربي، وتؤيد شركات الطاقة (النفط)، وضد حزب الخضر وأنصار حماية البيئة، وتلتزم سياسة حق الأفراد في امتلاك السلاح الحربي في الشوارع والمنازل.
بالين متشددة في توجهاتها الثقافية التي لا تختلف عن المبادئ العامة لاستراتيجية الحزب الجمهوري وهي متجانسة معها إلى درجة التطابق. فهي المرأة «الكاوبوي» التي تبالغ في دعم توجهات رجال «رعاة البقر» وما تعنيه ثقافيا من تشجيع مطلق على تعزيز صناعة السلاح وقطع الأشجار وجرف الغابات بحثا عن النفط. واختيار ماكين لهذا الصنف من النساء المحافظات وضع الحزب الديمقراطي المنافس في موقع صعب يتطلب منه توضيح موقفه من مجموعة نقاط تتصل مباشرة بالاقتصاد الأميركي واعتماده على قطاعين مهمين في عهد بوش: التصنيع الحربي الذي يضغط على السياسة الخارجية ويفرض عليها التزام نهج توتير العلاقات الدولية لتصريف المنتوجات، وشركات النفط التي تتسابق على تأمين مصادر طاقة تحتاجها مختلف الصناعات لتوفير الدخل المالي وتحقيق فرص التنافس.
ماكين وجه ضربة سياسية ثقافية يمكن قراءة إشاراتها على وجهين: الأول أن بالين امرأة وهذه دعوة جزئية إلى التغيير وتعديل الصورة النمطية لهذا المنصب المهم. والثاني أن بالين متطرفة أكثر من رجال الحزب الديمقراطي فهي متشددة في دعم تحالف الصناعات العسكرية مع مؤسسات الطاقة ولا تكترث كثيرا بالأشجار والغابات والمحميات ولا تعارض حفر الآبار بحثا عن النفط.
اختار ماكين انتهاج سياسة النصف. فهو مع نصف التغيير (ترشيح سيدة متزوجة وأم لخمسة أطفال وضد الإجهاض) وضد النصف الآخر (الاستمرار في سياسة بوش التي تدعم اقتصاديا مصانع الأسلحة وشركات النفط).
نصف تغيير في مواجهة التغيير الشامل. هذا هو مختصر عنوان المعركة الأميركية الداخلية بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي. والناخب (دافع الضرائب) عليه الاختيار بين سياسة تتابع نهج بوش بقناع امرأة، وسياسة تحاول كسر الصورة النمطية قبل أن يتوضح شكل البديل. وشكل البديل ليست له علاقة باللون أو الجنس أو السن بقدر ما يتصل بالاقتصاد والقطاعات المنتجة وأسواق المال. الجانب الأول من المعركة مهم للغاية في التأثير على نوعية الاختيار ولون بشرته إلا أن الجانب الثاني يلعب دوره في توجيه المعركة وتحديد خطوطها العريضة.
مشكلة الحزب الديمقراطي تنحصر الآن في توضيح برنامجه السياسي - الاقتصادي وتوجهاته الاجتماعية والخارجية حتى يتجاوز عقدة اللون والانتماء والهوية. والمشكلة تبدأ في تحديد استراتيجية التعامل مع «لوبيات» الصناعة الحربية وشركات الطاقة وأسواق المال، وهي لوبيات (مافيات) نجحت خلال السنوات الثماني الماضية في ترجيح قوتها والسيطرة على مختلف القطاعات المنتجة وتحولت إلى قوة قائدة للاقتصاد الأميركي.
هذا التعديل البنيوي في توازن قطاعات الاقتصاد أعطى أولوية للإنتاج الحربي المدعوم بشركات النفط. وبذريعة اضطرار الإدارة إلى دعم تلك الصناعات لتلبية حاجات الحروب ارتفعت موازنة الدفاع إلى مستويات غير مسبوقة، ما أدى إلى توظيف الرساميل واستثمارها في قطاع يلبي سياسة خارجية هجومية تعزز نظرية الأمن على مختلف الاحتياجات من صحة وتربية وبيئة وغيرها من متطلبات اجتماعية تتصل بالخدمات وضمان الشيخوخة وتأمين أعمال للعاطلين.
استسلام «مشرف»
سياسة بوش الخارجية ارتبطت داخليا بذاك التعديل البنيوي الذي كسر توازن القطاعات الاقتصادية ورجح دور مؤسسات التصنيع الحربي وشركات الطاقة في قيادة قاطرات الإنتاج القومي. وبسبب ارتباط السياسة الخارجية بتوازن الاقتصاد الداخلي بات الأمر يتطلب استراتيجية جديدة تبدأ بتعديل التوازن في موازنات الاستثمار المحلي لإعادة توظيفه مجددا لتعديل السياسة الخارجية. وهذا يعني أن الحزب الديمقراطي بات يواجه معركة داخلية تتطلب إعادة ترتيب برنامج التوظيفات المحلية في القطاعات الصناعية حتى يستطيع الضغط باتجاه تغيير السياسة الخارجية في اعتبار أن الحروب مسألة اقتصادية ولم تعد معزولة عن مصالح مؤسسات تلعب دورها في ترسيم الاستراتيجية الدفاعية.
هل يستطيع الحزب الديمقراطي كسر هذه المعادلة الداخلية وينجح في إضعاف دور الكارتيلات (مؤسسات الاحتكار) في تصنيع السياسة الخارجية أم أنه سيضطر إلى الخضوع لهيمنتها ويتعامل معها بموضوعية تأخذ في الاعتبار موقعها المسيطر على بنية الاقتصاد الأميركي؟
المعركة صعبة جدا، ويرجح أن يفشل الحزب الديمقراطي في تلك المواجهة الداخلية حتى لو نجح في الفوز بالانتخابات. فالتعديل صعب وليس مستحيلا ولكنه يحتاج إلى فترة زمنية طويلة حتى يتم ترتيب المعادلة وتأمين مخارج معقولة للانتقال مجددا من اقتصاد الحرب إلى اقتصاد السلم. وهذه العملية الانتقالية النوعية تحتاج فعلا إلى استراتيجية حذرة تتوخى كسب الشارع (الناخب ودافع الضرائب) وإقناعه بضرورة التغيير وأيضا تتطلب صوغ ذاك الخطاب السياسي الذي لا يستفز مؤسسات التصنيع الحربي ولا يستنفر شركات الطاقة التي حققت المليارات من الأرباح بسبب سياسة بوش الهجومية.
ماكين (الحزب الجمهوري) أعلن الاستسلام المشرف (نصف هزيمة) حين قرر اختيار امرأة لمنصب نائب الرئيس حتى يؤكد أنه ليس ضد التغيير (كسر الصورة النمطية)، ولكنه اختار سيدة محافظة وشديدة التطرف في نزعتها المضادة للبيئة وفي تأييدها لمصانع الأسلحة ودعمها لسياسة التنقيب عن النفط من دون عقبات قانونية وموانع تشريعية. واختيار ماكين لمثل هذا الصنف من السيدات التي تذكر بالنموذج البريطاني (مارغريت ثاتشر) وجه رسالة تطمين لكارتيلات الاحتكار أن التغيير الذي يطمح إليه شكلي ونصفي وهو لا يتطلع إلى القطع مع الماضي وتجاوز الخطوط الحمر التي ارتسمت ميدانيا ولم يعد بالإمكان تعديلها من دون خوض معركة داخلية شديدة الوعورة والخطورة.
استسلام ماكين «المشرف» لمؤسسات الاحتكار أحرج الحزب الديمقراطي الذي بات عليه أن يخوض معركة التغيير الشامل على جبهتين: جبهة اللون والهوية والصورة النمطية للرئيس ونائبه، وجبهة تغيير استراتيجية الهجوم الخارجية من خلال تعديل توازن قطاعات الإنتاج الداخلي في الاقتصاد الأميركي.
هذه المعركة المزدوجة تتطلب فعلا سياسة شديدة التعقيد وعالية الذكاء في التعامل مع مصالح شركات أصبحت مسيطرة على الاقتصاد وتلعب دورها في التأثير على تصنيع الحروب وترسيم السياسة الخارجية. والحزب الديمقراطي الذي قرر اللجوء إلى خيار التغيير على الجبهة الأولى (اللون والهوية والصورة النمطية) أصبح الآن في موقع الطرف المطلوب منه توضيح استراتيجية التغيير على الجبهة الثانية (نزع الاحتكار عن شركات السلاح والطاقة). المعركة متصلة، وفي حال نجح الحزب الديمقراطي في جانبها الأول تصبح إمكانات تعديل الجانب الثاني واردة، ولكنها تحتاج إلى وقت لمواجهة صعوبات خطيرة. والصعوبات الخطيرة تعني احتمال تراجع الحزب الديمقراطي عن الاستمرار في سياسة كسر الاحتكار وإعادة التوازن لقطاعات الاقتصاد الأميركي.
احتمال تراجع الحزب الديمقراطي عن برنامج التغيير المتصل بالبنية الإنتاجية للقطاعات التصنيعية مسألة غير مستبعدة. وفي حال حصول الأمر المذكور فمعنى ذلك أن السياسة الخارجية الأميركية في الفترة المقبلة لن تدخل عليها تعديلات كثيرة وحاسمة، حتى لو فاز باراك أوباما بالرئاسة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2186 - السبت 30 أغسطس 2008م الموافق 27 شعبان 1429هـ