تساءل طالب صيني «لماذا تصومون رمضان ؟ ما الفائدة منه ؟ يبدو لي أنّ الصيام كان في السابق؛ لأنّ الناس كانت لا تمتلك المال ولا يتوافر لها الطعام ، أمّا اليوم فالوضع قد تغير، أنا لا أستطيع أن أتوقف عن الأكل !».
يا صاحبي كم من فقير ومحروم وجائع ومريض وضعيف ومكروب ومظلوم في هذا العالم ؟ أين الرحمة والشفقة والعطف والإنسانية ؟ كيف سنشعر بهم من دون أنْ نستشعر قليلا من جوعهم وألمهم ؟ هنا يتواجد رمضان ، يجدد سنويا هذا الشعور، يجعل من الإنسان إنسانا أفضل، ويجعل من هذا العالم مكانا أفضل للعيش.
أستاذ غربي نشيط ومواظب على الحضور للمحاضرة في الوقت بدقة عالية، لم يتأخر منذ بداية عمله ، تأخر في يوم عشر دقائق، فقال أحدهم ربما مات !حضر بعدها حزينا باكيا، فسأله أحدهم :ما خطبك ؟ قال: إن قلبي مريض وأخشى أن يموت !هنا يا صاحبي يحضر رمضان ، يجعلنا نشعر بذلك الإنسان الذي هو أكرم مخلوقات الله ، بينما لم ينشغل الأستاذ بآلام الآلاف الذين يموتون من الجوع يوميا، وإنشغل وحزن على كلب قد يموت وقد يشفى.
لا تموت الدول بتخلفها العلمي والسياسي، فما لم يواكب أي تقدم تقدما أخلاقيا وسموا روحيا وإطمئنانا نفسيا وإيمانا دينيا ، فهو هباء منثورا هشيما تذروه الرياح. فما فائدة التقدم الذي سيتخدم في الإستعباد وشن الحروب وتدمير الإنسانية ؟ من ينكر تقدم اليابان في الجوانب العلمية ؟ ومن يعطي تفسيرا لإنتحار 32 ألف من شعبه في عام واحد ؟ ولماذا أعلى الدول إنتحار هي أقلها إيمانا وأقلها صبرا على تحمل الإبتلاءات ؟ لذلك يا صاحبي فإنّ الصيام هو مدرسة الصبر الذي لا يتم تدريسه في المدارس ولا الجامعات، صبر على تقوى وطاعة ومحارم وأقدار الله . هو درس الإيثار والتضحية والشعور بالإنسان. وهو أفضل الخطباء وأذكى الحكماء في تهيئة الشعوب للإستعداد للإنجاز وللإبداع في حل الأزمات والابتلاءات التي تمر على النفس الإنسانية.
كما إنّ الألعاب الأولمبية أصبحت حدثا رياضيا عالميا، فإنّ رمضان اليوم أصبح لا يقل أهمية في العالم ، ففي كلّ أرض جماعة تصوم رمضان وتفطر وتدعو للخير.جماعة من كل أرض يشاركون ويتنافسون ويسبحون ويهللون كلّ عام وليس كلّ أربعة أعوام، في بعض السنوات فإنّ الألعاب الأولمبية تمت مقاطعاتها من قبل دول ، إلا إنّ أولمبياد رمضان لم تتم مقاطعته من قبل أي من المشاركين.في الألعاب الأولمبية فإن المنافسة غير الشريفة دائما تكون متواجدة من قبيل المنشطات والتحكيم وغيرها ، إلا أن أوليمبياد رمضان لا يمكن أن توجد فيه منافسة غير شريفة.الألعاب الأولمبية تتدخلت فيها السياسة ، إلا أنّ رمضان الصائمين لا يعترف بالسياسات . الألعاب الأولمبية تتأثر بالحروب كما في الحرب العالمية الأولى والثانية ، وأولمبياد رمضان قد جرى في حروب عدة.إنه الأولمبياد الأكبر والأطول والأجمل في تاريخ الإنسانية الذي بدأه العليم في كتابه «والسابقون السابقون «(الواقعة 10) ، وفي هذا الأولمبياد فإنّ الجوائز هي الأغلى والأثمن والأبقى.
يا صاحبي دلّني على قوم يصبرون طوعا كصبر الصائمين ؟ ويفرحون كفرحهم في العيد ؟
يا صاحبي إن رمضان هو ميدانٌ للتغيير والإصلاح، رمضان فرصة لتعلم إدارة الوقت، رمضان فرصة للإبداع وكسر روتين الأيام.قد يلغي الظلام يوما ، ويحاصر الظلم شهور السنة ، لكنهم لا يستطيعون إلغاء وحصار رمضان.فرمضان شهر الصمود وتكبير الجنود وتكسير القيود .
يا صاحبي هذا الصيام يدخل ضمن مقررات صناعة الإنسان ، ذاك الإنسان الذي يستمد طاقته في الحياة من طاقة لا تنضب ولا تنتهي ولا تجف ولا تغيب ولا تزول ولا تموت ، فلا يغفل ولا ييأس ولا يقلق ولا يحزن ولا يتوقف ولا ينتحر ولا يخسر ولا ينتهي.
كل الحوافز والدوافع تنتهي وتضعف إلا دافع الإيمان ، وكلّ القوافل تعطش وتظمأ وربما تهلك إلا قافلة الإيمان ، وكل الأمم تتلاشى وتغيب إلا أمة الإيمان ، التي تنهل من إيمانها رؤية صادقة نحو بناء الإنسان والأوطان.
أكفان رمضان
تتنافس الدول لاحتضان المناسبات العالمية كالأولمبياد وكأس العالم ، وتستعد لذلك منذ سنوات ، وتبني المباني والملاعب العملاقة ، وتنظم شوارعها ومطاراتها وفنادقها ، وتحضر كلّ طاقاتها من أجل إنجاح هذا المشروع الذي سيشاهده الملايين حول العالم ، وسيجني لها ملايين من الدراهم.ويستعد المتسابقون قبل شهور للحصول على الميداليات والجوائز .ولو لم يستعد الرياضيون ويفوزون أوليمبياد بكين لما شفعت لهم إنجازاتهم السابقة .فكيف تستعد دولنا لرمضان ؟ كيف تستعد لصناعة الإنسان والمستقبل ؟ كيد تستعد لنشر الأخلاق ؟ عشرات المسلسلات التي تصرف عليها آلاف الدراهم لكن ماذا يقولون ويطرحون ويبحثون ويعالجون ويخططون ؟ يتحدثون عن مشاكل ، فضائح ، كوميديا ، فوازير ، كاميرا خفية، مسلسلات الفساد الخليعة وبرامج الضياع الوضيعة تحت شعار (رمضان كريم!)؟ من 12 شهر في العام ،لا يوجد إلا شهر رمضان؛ ليكون كريما عندهم ؟ فهل من مزيد ؟ وهل هو استعداد لصناعة خير الأمم أم أسوأ الأمم ؟
كيف نبدأ ؟
اذا كان إستعداد أكثر الدول هو من اليمين إغراق الأسواق بما لذ وطاب ومن الشمال تلفاز ضره أكثر من نفعه (وكأنه شهر الشهوات ) ، فكيف إستعد ويستعد الأفراد ؟ هناك من يستعد في رمضان لرمضان ، يغرس ويسقي ويجني ولكن قد لا تكون الثمار قد نضجت في هذه السرعة فيستصعب أكلها. وهناك من يستعد لرمضان فيصوم رجب وشعبان، وعندما يأتي رمضان يكون في قمّة الاستعداد والقوّة . فلماذا ينتظر حتى يوم السباق ؟
لماذا ننتظر حتى نرى الهلال؛ لنبدأ استعدادتنا ؟ لماذا ننتظر رمضان حتى نحسن تعاملنا ؟ لماذا ينتظر كثير من الآباء والأمهات حتى العشر الأواخر حتى يشتروا حاجيات العيد ؟ كم عزيز فقدنا من رمضان السابق ؟ ومن يدري ويضمن عمره للعام المقبل ؟ فماذا لو نعتبر رمضان هذا العام وكل عام هو آخر رمضان ؟ حينها قد نكون في قمة إستعدادنا. «ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة»(التوبة 46) ، فالإستعداد ليس في تكديس الأطعمة الرمضانية ولا توقيت النوم والإستيقاظ على المسلسلات والبرامج ، وليس التكاسل في الدعاء والصلاة ، ثم نتمنى على الله الأماني. فمن الاستعداد تهيئة المحيط المناسب «أرادوا وليس أراد» ، فيد الله مع الجماعة.
يبدأ رمضان هذا العام مع بداية الدراسة في كثير من مدارس وجامعات العالم ، كأنه يقول للطلاب بأن يبدأوا بداية قوية وأن يتحلوا بالصبر وإرادة في تحصيلهم العلمي .ولأن الفشل في التخطيط يعني التخطيط للفشل ، لذلك يجب أن نضع خطة رمضان وحبذا لوتكون مطبوعة ومقروءة.
العهد «اللهم إني صائم»
إن غضب عليك أو شتمك أو أخطأ في حقك أحدهم في الشارع أو المدرسة أو العمل ، قل له إنك صائم ، قل له إنه لن يستطيع معك صبرا، فالصائم لله ، نفسه هادئه، وروحه مطمئنة وقلبه ساكن ، قل له إنّ رمضان هو شهر صناعة الإنسان. ليس من المستحيل أنْ تصبح الأوّل في مدرسة أو جامعة أومسابقة ، لكن الصعوبة أن تحافظ على هذا المركز.لذلك فالعهد أن يبقى رمضان الصبر والخير والأخلاق والمساعدة بعدما ينتهي الشهر.
فكر بنفسك
الحياة مارثون، والكل يشارك فيه، الطفل والمرأة والشاب والشيخ، تختلف سرعة كل منهما عن الآخر ، فليس المطلوب التنافس على هذه الدنيا ، التي تنافسها من قبلنا فأصبحوا من بعد ذلك خاسرين « فامشوا في مناكبها»(الملك 15). وعندما كان الحديث عن ما هو أهم قال: «وسارعوا الى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدّت للمتقين «(آل عمران 133) وفرق بين المشى والمسارعة والتنافس . فالليالي تُطوى، والشهور تمضي ، والعمر يفنى، ويبقى إستعداد وتنافس وعمل الإنسان لأطول وأشق سباق «وفي ذلك فليتنافس المتنافسون» (المطففين 26)والمارثون يوشك على النهاية.
فكر بغيرك
عندما نجوع فسرعان ما ينتهي اليوم ونفطر، و رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع و العطش، ورب قائم ليس له من قيامه إلا النصب والتعب، فلنتذكر فقراء ومساكين هذا العالم الذين قد لا يفطرون في نهاية صيامهم اليومي ، ولنتذكر جوع وعطش يوم القيامة ؟ بماذا نشعر ونحن نرى صور وأصوات فقراء العالم وهم يموتون يوميا من الجوع والمرض ، بينما يرمى الغذاء والدواء في القمامة ؟ بماذا سنجيبهم يوم يسألوننا «ألم تأتكم صورنا وأصواتنا وإستغاثاتنا فنسيتموها ؟ « ماذا لو تكون إجابة تساؤلاتهم ( وكذلك اليوم تنسوون؟).
أيها الصائمون والصائمات كيف سنستقبل ضيفنا هذا العام ؟ كيف سنستقبل شهر الانتصارات في نفوسنا ودنيانا ؟ بماذا نشعراذا تذكرنا أننا نستجيب لأمر الله ؟ وأنه فضلنا على بقية خلقه بصيامنا رمضان ؟ وبأننا صائمون حبا وغيرنا فاطرون ربما كُرها ؟! وأن أنفاسنا فيه تسبيح ؟ ونومنا فيه عبادة ؟ بماذا نشعر في نهاية يوم الصيام حين الإفطار؟ هل يكون رمضان للخمول والكسل ؟ وهل ينقضي كسابقيه أم ننوي إضافة المزيد ؟ تفكرٌ في «إنا أنزلناه في ليلة القدر»(القدر1)ومعه تفسير وتفكر وتدبر ؟ قليل من الهجوع وكثير من الدموع ؟ استغفار في الأسحار والمداومة على الأذكار ؟ قيام الليل قائمين قاعدين ؟ ترقب ليلة هي خير من عمر الإنسان كله ؟ إكثار من الصدقات ؟ صلة رحم ؟ إفطار صائم ؟ إطعام مسكين ؟ كفالة يتيم ؟ كسوة عريان ؟ مساعدة أرملة أوثكلى ؟ زيارة مريض ؟ إيواء مشرد ؟ لنفكر وسنجد كثير من الإجابات والأفكار فلا نتأخر في تطبيقها.
أيها القائمون والقائمات، رمضان هو من شهور الوحدة الإسلامية، فكم هو جميل لو يجتمع المسلمون في بيت من بيوت الله ، يصلون معا ويفطرون معا ، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، حتى تنزل عليهم السكينة، وتغشيهم الرحمة، وتحفهم الملائكة، ويذكرهم الله فيمن عنده كما أخبر بذلك رسوله (ص )، عل الله يفتح بينهم فتحا مبينا. قل يا أيها المسلمون تعالوا الى كلمة سواء ألا نعبد الا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله.
نبدأ إن شاء الله في جامعة رمضان ولا نتخرج من فصل رمضان 1429 إلا وكلنا مستعد لرحلة جديدة ، رحلة الإنسان المكلف بالخلافة والعمارة والإصلاح والتطوير، ولنسأل العظيم أن يعنا على صيامه وقيامه ولا يحرمنا من حلاوته وخيراته.
حامد الحوري
العدد 2185 - الجمعة 29 أغسطس 2008م الموافق 26 شعبان 1429هـ