مع تصاعد حدة الصراع على منطقة القوقاز، صار الكل يتحدث عن احتمال عودة حرب باردة جديدة تعيد العالم إلى مشهد القطبية الثنائية التي انتهت مع سقوط الحقبة السوفياتية السابقة في العقد الأخير من القرن الماضي.
هذه التوقعات بالطبع لم تأت من فراغ، فالبوارج الحربية الأميركية تجوب البحر الاسود، وروسيا جربت أمس صاروخا قالت إنه قادر على اختراق «أنظمة دفاعية» في إشارة إلى نظام الدرع الصاروخي الأميركي.
وقبل هذين التصعيدين العسكريين، حثت واشنطن عمقها الغربي (الاتحاد الأوروبي) على اتخاذ مواقف متشددة ضد روسيا، فيما كانت موسكو بالمقابل تعول على عمقها الآسيوي وفي مقدمته منظمة شنغهاي للتعاون لموازنة حلفاء أميركا في الصراع على النفوذ في منطقة القوقاز.
وبعد أوروبا وشنغهاي قد يأتي الدور على الشرق الأوسط بما يحمله من مصالح ما زالت أميركا تحاول الحفاظ عليها. فكيف ستستقبل منطقتنا ثنائية القطبية في حال لو استمر الصراع الأميركي - الروسي ليشمل نقاط تقاطع أخرى مثل الشرق الأوسط؟
روسيا وريثة الاتحاد السوفياتي السابق ذات النظام الشمولي قد تغيرت، والخوف القديم من تصدير أفكار ذلك النظام إلى المنطقة صار موضوعا من الماضي المنسي الذي يصعب تكراره.
في الجانب السياسي لا نعرف الكثير عن القادم الجديد، وإذا أردنا أن نربط الماضي بالمستقبل، فيمكن القول إن لدول المنطقة تجربة سيئة مع كلا القطبين السابقين، وخصوصا أنهما كانا يستخدمان الدول العربية والإسلامية في حروبهما المباشرة وغير المباشرة.
تجربة الشرق الأوسط مع القطب الواحد (أميركا) لم تكن مبشرة، حيث لم ير شعوبها إلا الاحتلالات والحروب المفتعلة والنزاعات الطائفية والقومية، وهي كلها جاءت في إطار عملية الشرق الأوسط الجديد المبني على تقسيم الشعوب إثنيا وعرقيا، وصولا إلى تهشيم الأوطان وإعادة بنائها وفق منظور مصلحي.
خرائط العالم الجديد بدأت أميركا برسمها من منطقة الشرق الأوسط، وعليها الآن أن تقبل بخرائط جديدة ترسمها دول أخرى، وقد تكون روسيا إحدى هذه الدول، ومن حق الشعوب القول إن على واشنطن أن لا تعارض عملا بدأته هي منذ أكثر من خمس سنوات.
لكن مع انهيار الاتحاد السوفياتي ومرور نحو عقدين من قطبية أميركا الأحادية وعودة روسيا للتشارك في زعامة العالم، قد تتحول الأمور باتجاهات أكثر توازنا. فموسكو، كما قلنا، لم تعد صاحبة حزب يريد أن يفرض أفكاره على العالم، ولا يبدو أنها طامحة لاحتلال دول في المنطقة مثل أميركا التي احتلت أفغانستان ومن بعده العراق وصادرت مع هذين الاحتلالين أرواح نحو مليون ونصف مليون مواطن خلال بضع سنين، وشردت بسبب حروبها نحو ربع عدد المهاجرين والمهجرين في العالم (حسب إحصاءات منظمة الهجرة الدولية للعام 2007)، وتدخلت في الشئون الداخلية للدول العربية والإسلامية، وورطت معظم أو كل الناشطين الذين صدقوا أكذوبة الدعم الأميركي بعد أن دفعتهم وشجعتهم للبحث عن الحرية والديمقراطية في أوطانهم لتتركهم فيما بعد عرضة للسجن أو الملاحقة أو التهجير.
دول المنطقة لم تربح من القطب الأميركي الأوحد، فماذا يمكن أن تخسر من القطبين القادمين أو أية أقطاب جديدة أخرى؟
إقرأ أيضا لـ "علي الشريفي"العدد 2184 - الخميس 28 أغسطس 2008م الموافق 25 شعبان 1429هـ