أجمع المؤرخون على أن الإجراءات الإدارية والاقتصادية لم تبدأ في دولة الإسلام قبل الهجرة من مكة إلى يثرب (المدينة). قبل الهجرة كانت هناك إشارات عامة تشي ببداية تنظيم للجماعة الأولى في مكة. ولم تتضح معالم الصورة إلا بعد أن استقر المهاجرون وبدأت الاستعدادات للمواجهات الكبرى.
أول ما فعله الرسول (ص)، بعد هجرته، تأسيس المسجد (مركز الدولة) والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار (الخزرج والأوس) لتنظيم العلاقات بين الجماعتين المؤمنتين، فنزل المهاجرون بيوت الأنصار وواسوهم بالديار والأموال، بعدها جاءت الموادعة (دستور المدينة) وهي صحيفة تنظم علاقات التعايش بين الجماعتين ومختلف القوى الأخرى من قبائل وبطون وأهل كتاب.
في المدينة بدأ تأسيس الدولة وتم بعد سنة ونصف السنة تحويل القبلة نحو المسجد الحرام، وفيها نزلت 32 سورة (82 سورة في مكة) تركزت في معظمها على المسائل المتعلقة بشئون البشر وتنظيم حياتهم وضبط علاقاتهم الدنيوية في مختلف القطاعات.
كان القرآن ينزل مفرقا ولا ينزل سورة سورة، وأحيانا كانت السُنة سابقة على النزول وأحيانا النزول على السُنة، وفي الحالين كانت السُنة تابعة والنزول متبوعا، وفي كل الحالات لعبت السُنة دورها في ضبط الإجراءات الإدارية والاقتصادية في مطلع الهجرة وبدايات التحول من «جماعة مؤمنة» إلى دولة، وكانت الجماعة تتبع السُنة إلى أن يأتي النزول فيحسم الأمر بهذا الاتجاه أو ذاك.
على قياس هذا التتابع الزمني تأسست الأنظمة الإدارية وترتبت الشئون الاقتصادية وتم صوغ قوانين العلاقات بين البشر على المستويين السلمي والحربي.
بعد استقرار الجماعة المهاجرة وتحصين الجبهة الداخلية في المدينة، بدأ الرسول (ص) في إعداد القوة للهجوم المعاكس تمهيدا لفتح مكة وإعادة المهاجرين إلى مركز الدعوة.
حتى يتم الأمر كان لابد من تركيز الضربات على جبهتين: السياسة (كسر شوكة قريش) والاقتصاد (تعطيل خطوط التجارة والمواصلات). ولأن قوة المسلمين كانت صغيرة آنذاك قياسا بقوات قريش اتبعت الضربات الأولى أسلوب الغارات (الغزوات) بقصد الإرباك وإشعار حلفاء قريش من قبائل وبطون أن وضعها غير مستقر وآمن، وأن قريش غير قادرة على حمايتها وأن تحالفها معها يعرضها للضربات والغارات، وللسبب المذكور تنوعت أساليب الضربات في البداية قبل أن تنتقل إلى المواجهات المباشرة. وتراوح معدل الوسط السنوي للمعارك بين نحو 6 ضربات كحد أدنى في السنة و8 ضربات كحد أقصى تبعا لاختلاف المؤرخين في إحصاء الغزوات وتصنيفها.
عموما، أحصى المؤرخون من السنة الأولى للهجرة إلى سنة رحيل الرسول (السنة 11 للهجرة) بين 19 و26 غزوة (وقيل 27 غزوة)، واختلفوا على عدد السرايا والبعثات أيضا، فقيل 35 وقيل 48 بين سرية وبعثة. ويتراوح مجموع الغارات بين 54 كحد أدنى و75 كحد أقصى وتمت كلها في فترتين: الأولى تركزت على اخضاع قريش وفتح مكة، والثانية اتجهت بعد مكة إلى إخضاع مختلف القبائل العربية وفتح الجزيرة العربية.
كان الهدف المباشر من المعارك المتواصلة نشر الدعوة، وهو أمر كان من الصعب إنفاذه قبل كسر شوكة قريش السياسية، بالتركيز بداية على القبائل الصغيرة المتحالفة معها، وهو أمر أرتبط نجاحه بمدى إضعاف قوتها الاقتصادية وتجفيف مواردها المالية (قوافل التجارة وخطوط المواصلات). فالرسول (ص) اتبع التتابع الزمني في تسديد الضربات العسكرية معطوفة في الآن على إجراءات إدارية واقتصادية لضمان أمن واستقرار الجماعة المؤمنة الأولى التي شكلت القوة الضاربة في الحروب وبناء الدولة.
السنة الأولى
اقتصرت السنة الأولى من الهجرة على إعداد القوة وتنظيم ألوية الجيش. واختلف المؤرخون على أول لواء، فهناك من يذكر أن الأول كان لعم الرسول حمزة بن عبدالمطلب وهناك من يقول إنه كان لعبيدة بن الحارث.
أعتمدت المواجهات الأولى أسلوب الغارات السريعة بقصد إرباك الخصم واختبار قدراته واستعداداته. فأرسل حمزة على سرية إلى ساحل البحر، وأرسل عبيدة على سرية إلى ثنية المرة، وأرسل سعد بن أبي وقاص على سرية الخرّار (ماء من الجحفة).
قاد الرسول (ص) في السنة الأولى غزوات مختلفة منها الأبواء فخرج يريد قريشا وبني ضمرة من قبيلة كنانة، فوادعته فيها أهل ضمرة وعاد إلى المدينة من دون قتال، ثم كانت غزوة بواط، وغزوة العُشيرة في ينبع فوادع بني مُدلج وحلفاءهم من ضمرة ورجع من دون قتال، وتعرضت المدينة إلى غارة قادها كُرز بن جابر الفهري فخرج إليه الرسول (ص) على رأس سرية ولاحقه حتى بلغ واديا يقال له سفوان.
السنة الثانية
انتهت السنة الأولى من دون مواجهات كبرى، وأثمرت الغزوات والسرايا والغارات عن قوة عسكرية مجهزة ومدربة تمتلك خبرة في المناورات والملاحقات والاقتحامات ورد الهجمات.
اتسعت الغارات في السنة الثانية للهجرة فكانت غزوة الابواء (ويقال ودّان). وأمر الرسول (ص) أبا عبيدة بن الجراح أن يتجهز للغزو، ثم عاد وبعث مكانه عبدالله بن جحش ومعه ثمانية رهط من المهاجرين، وقيل 12 رهطا (الرهط جمع من الرجال يقل عن العشرة) وأمره أن ينزل نخلة، وهي مكان يقع بين مكة والطائف، لرصد أخبار قريش. ومرت به «عير لقريش» تحمل بضائع فأغار عليها وغنم ما معها.
عاد عبدالله بن جحش وأصحابه بالعير والأسرى إلى المدينة فعنفهم الرسول (ص) وقال: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام. وأوقف العير إلى أن نزلت الآية فعزل خُمس العير وقسم سائرها لأصحابه، وفدى الأسيرين وهما أول أسرى في الإسلام. فأسفرت غارة نخلة عن أول غنيمة وأول خُمس قسم في دولة الإسلام. بعدها فرض في شعبان الصوم في رمضان، وأمر الناس بإخراج زكاة الفطر قبل الفطر بيوم أو يومين، وفيها صلى بالمسلمين صلاة العيد، وصرفت القبلة من القدس إلى مكة (الكعبة).
قويت شوكة الإسلام بالإجراءات الإدارية والتنظيمية والاقتصادية واتخذت الغارات أبعادا مختلفة فوقعت في رمضان من السنة نفسها معركة كبرى شكلت نقطة تحول في موازين القوى. وبدأت المواجهة حين أفادت الأخبار أن العير (قافلة الإبل التي تحمل الميرة) قاربت بدرا وتضم أشراف قريش، وكانت بدر من مواسم العرب تجتمع لهم بها سوق كل عام، فتوجه المسلمون إلى المكان وسيطروا على ماء بدر وحجزوه عن قريش، وأوقع المسلمون أول وقعة كبرى بالمشركين، وفي نهايتها أمر الرسول (ص) بجمع ما في العسكر من غنائم وقسمها بين المسلمين على السواء وضرب لثمانية نفر لم يحضروا الواقعة بسهم من الأنفال، وتم نقل الأسرى (70 أسيرا) إلى المدينة فأوصى بهم خيرا، وفاوضت قريش لإطلاق سراحهم مقابل فدية، واختلف مقدار الفداء بين شخص أجبر على القتال وبين من شجع عليه أو بين صاحب مال وجاه وبين مسكين لا يقوى أهله على الدفع.
كشفت معركة بدر عن ثغرات في الجبهة الداخلية في المدينة حين نقض أهل بني قينقاع، وهم حلفاء الخزرج، عهد الموادعة (دستور المدينة) فغزاهم الرسول (ص) في شوال (وقيل في صفر في السنة الثالثة) وحاصرهم 15 ليلة إلى أن نزلوا على حكمه فغادروا إلى بلاد الشام واقتسم المسلمون ما كان لهم من مال (كانوا صاغة ولم تكن لهم أراضٍ) فقسم الغنيمة بين أصحابه وخمسها وكان أول خُمس للرسول، بعدها كانت غزوة الكُدر حين ورد خبر اجتماع بني سليم فعاد ومعه النعم (الغنائم) ثم أرسل سرية بقيادة غالب بن عبدالله الليثي فأغار على بني سليم وغطفان وغنموا النعم.
السنة الثالثة
خافت قريش من تعاظم قوة المسلمين فاتصلت سرا في السنة الثالثة بأهل النضير في المدينة واتفقوا على التحالف وإثارة الفتنة الداخلية، بالتفاهم مع كعب بن الأشرف (كانت أمه من بني النضير) فتوجه الأخير إلى مكة ونقض العهد وأخذ يحرض قريشا لقتال المسلمين وقتل رسولهم فرد رجل من الأنصار (الأوس) بقتله وقامت الخزرج بقتل حليف كعب وهو سلام بن ابي الحقيق (أبو رافع).
زادت مخاوف قريش حين فشلت خطة الإنقلاب الداخلي فقررت تغيير طرق تجارتها فتحولت إلى العراق بدلا من المواصلات التقليدية من طريق الشام، وتحين المسلمون فرصة قدوم قافلة ضخمة من الفضة سلكت طريق العراق فأرسل الرسول (ص) سرية بقيادة زيد بن حارثة فلقيهم على ماء في نجد يقال له الفردة فأصاب العير وما فيها وعاد بها إلى المدينة وبلغ خُمسها 20 ألفا وقسم الأربعة أخماس على السوية.
استفزت غارة الفردة (ويقال لها القردة) قبيلة قريش وقررت الرد انتقاما لبدر وما لحق بها وأعوانها من ضربات ألحقت الأضرار بتجارتها وعطلت مسالك قوافلها وأضعفت شوكتها أمام مختلف القبائل العربية، فجهزت جيشا ضم قبائل ثقيف وكنانة وتهامة و50 غلاما من الأوس وقاده أبو سفيان وتولى قيادته الميدانية خالد بن الوليد على الميمنة وعكرمة بن أبي جهل على الميسرة وكان اللواء مع بني عبدالدار.
التقى الجيشان في أُحُد ومالت الكفة بداية للمسلمين فدخلوا عسكرهم ينهبون فانتهزت قريش المناسبة وشنت هجوما معاكسا قاده أبن الوليد فمالت الكفة للمشركين وكسرت رباعية الرسول (ص) وأصيب بجروح، وسرت شائعات عن مقتله بددتها عودته إلى المدينة يوم السبت، وأمر الرسول (ص) في اليوم التالي (الأحد) بغزوة حمراء الأسد، وهي تبعد سبعة أميال عن المدينة، حتى لا تظن قريش وأعوانها أن شوكة المسلمين كسرت.
السنة الرابعة
أضعفت معركة أُحُد شوكة المدينة فانتهز بعض الأعراب من بني عضل والقارة الفرصة في السنة الرابعة للهجرة فغدروا ببعثة من الصحابة (ستة انفار) وقتلوها في الرَّجيع بالتعاون مع حي من هذيل (بنو لحيان)، وتكرر الأمر في بعثة أخرى (70 صحابيا) في بئر معونة بين أرض بني عامر وحرّة بني سُليم.
ارتفعت معنويات بني النضير واتفقوا على قتل الرسول (ص) والاستيلاء على المدينة فأمر الرسول المسلمين بحربهم فتحصنوا فحاصرهم وقطع نخلهم للتضييق عليهم وأرسل يفاوضهم فوافقوا على أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من الأموال إلا السلاح فأجابهم فخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام. وكان ممتلكات (وسلاح) بني النضير خالصة للرسول (ص) وحده يضعها حيث يشاء، فقسمها على المهاجرين الأولين من دون الأنصار إلا رجلين فقيرين فأعطاهما. وأعقب تشتيت بني النضير غزوة الرِّقاع في نجد (بني محارب وبني ثعلبة من غطفان) ثم غزوة بدر الثانية.
السنة الخامسة
تمت في السنة الخامسة غزوة دومة الجندل فتهيبت قريش الموقف وخافت من عودة شوكة الإسلام فقررت القيام بهجوم على المدينة واحتلالها بتحريض من بني النضير. وأقبلت قريش بجيش بلغ تعداده عشرة آلاف ضم من تابعهم من كنانة وتهامة وغطفان، وانضم إلى جيش المشركين المنافقون والأحزاب وبني قريظة. فاستعد المسلمون للدفاع عن المدينة وأمر الرسول (ص) بحفر الخندق وقسم العمل بينهم فجعل لكل عشرة أربعين ذراعا، وحاصرت القبائل والأحزاب المدينة قرابة 20 ليلة واقتصر القتال على الرمي بالسهام وعجزت قريش عن اقتحام الخندق وفشلت الأحزاب في إثارة الفتنة الداخلية.
انتهى الحصار بتفكك تحالف قريش وانقسام قبائل المشركين على قرار اقتحام المدينة فانسحبت قريش وعادت غطفان إلى ديارها وترددت قريظة وانكفأت الأحزاب تنتظر مصيرها.
بعد فشل غزوة الخندق (الأحزاب) في السنة الخامسة بدأ الهجوم المعاكس ولم يتوقف حتى فتحت مكة. أول ما فعله الرسول (ص) في السنة الخامسة غزو بني قريظة (من موالي الأوس) بعد أن نقضوا عهد الموادعة. وحاصرهم شهرا (ويقال 25 يوما) فقال الأوس: يا رسول الله أفعل في موالينا (قريظة) مثل ما فعلت في موالي الخزرج (قينقاع). ورفضت قريظة حكم الرسول وردت الحكم فيهم إلى سعد بن معاذ فأمر أن «تُقتل المقاتلة» وتقسم الأموال، وقسم الرسول (ص) أموالهم فأخرج منها الخُمس، وأعطى الفارس ثلاثة أسهم وكانت الخيل 36 فرسا (للفرس سهمان ولفارسه سهم) وللراجل ممن ليس له فرس سهم، وكانت غزوة بني قريظة أول فيء في الإسلام وقع فيه السهمان والخُمس
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2184 - الخميس 28 أغسطس 2008م الموافق 25 شعبان 1429هـ