نظرية الفوضى «المنظمة» أو «البناءة» التي اعتمدتها إدارة جورج بوش؛ لتبرير سياستها في منطقة «الشرق الأوسط الكبير» بدأت تنقلب عليها وأخذت تغزو البيت الأبيض. فالفوضى تعصف بالإدارة بسبب تلك الخلافات «المنظمة» و«البناءة» بين نائب الرئيس ديك تشيني وبقايا تيار «المحافظين الجدد» الذي يدعم سياسته وبين وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس وتيار «الواقعية السياسية» المدعوم من جانب وزير الدفاع روبرت غيتس.
انقسام البيت الأبيض بدأ في نهاية العام 2006 حين انسحب وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد من الواجهة تاركا مجموعته المتطرفة تنهار أمام المتغيرات التي أحدثها صدور تقرير بيكر - هاملتون بشأن العراق ومأزق الإدارة في التعامل مع ذاك الملف الساخن. فالتقرير الذي تعاملت معه الإدارة بسلبية في البداية أخذت لاحقا تعيد النظر به وبدأت تأخذ بوجهة نظره وخصوصا في موضوع الاتصال بدول الجوار العراقي وحثها على المساعدة لضبط الأزمة ومحاصرة العنف مقابل تنازلات سياسية ودبلوماسية من الجانب الأميركي.
تركيز الإدارة في العام 2007 على الملف العراقي ساعد الولايات المتحدة على تحسين صورتها المأزومة في بلاد الرافدين وخفف من حدة العنف وقلل من عدد قتلى الجيش الأميركي مقابل صعود تيار «الصحوة الإسلامية» ونمو قدرات الجيش العراقي في مواجهة تلك التيارات التي كانت تلجأ إلى شن عمليات ضد الاحتلال.
حتى نهاية العام 2007 كان الملف العراقي يشكّل أولوية قصوى في السياسة الخارجية الأميركية، الأمر الذي ساعد واشنطن على ضبط مشروعها الدولي في جدول واضح في تدرج نقاطه. بعد العراق توجهت الإدارة نحو فلسطين حين بدأت واشنطن تضغط على موضوع إقامة دولتين قبل نهاية 2008. وبعد فلسطين جاءت ملفات أخرى متنوعة في عناوينها. فهناك أفغانستان وانتشار العنف منها إلى باكستان وبروز مخاوف بشأن إمكان برويز مشرّف حماية ترسانتها النووية ومنع سقوطها في شبكات المتطرفين. وهناك البرنامج النووي الكوري الشمالي ومخاطره الأمنية على حلفاء واشنطن في شرق وجنوب شرق آسيا. وهناك البرنامج النووي الإيراني ومخاطر انتقاله من الطاقة السلمية إلى الإنتاج العسكري.
كلّ هذه الملفات كانت مرسومة بأسلوب هندسي معقول على رغم الاعتراضات الدولية والإقليمية التي كانت تواجه السياسة الخارجية للإدارة. فالولايات المتحدة ظهرت أمام العالم بأنها في صدد مراجعة ملفات وضبطها تحت سقف احترام مصالح الدول الكبرى ما جعلها تكسب ثقة بعض العواصم الأوروبية والآسيوية والعربية. عربيا وافقت الدول العربية على حضور «مؤتمر أنابوليس» على رغم قناعتها بأنّ حكومة إيهود أولمرت ليست مستعدة للتجاوب مع القرارات الدولية بشأن الانسحاب وإقامة دولة فلسطينية «قابلة للحياة». وآسيويا وافقت الدول الآسيوية على المساعدة في الضغط على كوريا الشمالية وإقناعها بالتسوية تمهيدا لاحتواء أزمة المفاعل النووي الحربي. وأوروبيا وافقت دول الاتحاد بالتفاهم مع الصين وروسيا على التقدم بصيغة معقولة تقنع طهران بضرورة الحوار وتبني مشروع «الحوافز» مقابل وقف التخصيب. وعندما لم تتجاوب القيادة السياسية الإيرانية مع صيغة «الإغراءات» لم تتردد موسكو وبكين في دعم سياسة «العصا» ووافقتا على تمرير قرارات دولية آخرها كان القرار 1803 الذي صدر في ربيع العام الجاري وأعطى صلاحيات استثنائية لواشنطن منها حقها في تفتيش السفن والطائرات المتوجّهة إلى إيران.
فوضى هدّامة
كلّ هذه التنازلات العربية والآسيوية والأوروبية والروسية جاءت ردا على سياسة الانفتاح التي أبدتها واشنطن حين قررت التعامل بواقعية مع الملفات الساخنة في مطلع العام 2007. إلاّ أن إدارة بوش التي تعاني من ازدواجية السلطة عادت للوقوع في سياسة التخبّط وبدأت تسلك طرقات تصعد التوتر في العلاقات الدولية. فهي مثلا فشلت في الضغط على أولمرت لتسهيل مرور «خريطة الطريق» في الضفة الغربية. وهي أيضا واجهت نمو قوّة «طالبان» في أفغانستان التي أخذت تهدد أمن قوات الأطلسي وتزعزع الاستقرار في باكستان. وهي كذلك فشلت في التعامل مع الملف الإيراني وترددت في استخدام القرارات الدولية التي صدرت بالتفاهم مع أوروبا وروسيا والصين. وبسبب هذا العجز الشامل أخذ الملف الكوري الشمالي يتجه مجددا نحو التصعيد بعد أن تمسكت واشنطن بشروطها ورفضت تقديم التنازلات المطلوبة لإقناع قيادة كوريا بضرورة الاستمرار في عملية تفكيك المشروع النووي.
تخبُّط واشنطن في إدارة الملفات أدى إلى تراكم السلبيات وبدأ نظام الأولويات يدخل في فوضى «منظمة» و «بناءة». وبسبب التخبط ضاعت إدارة بوش ولم تعد قادرة على تحديد أولويات سياستها الخارجية. فهل العراق أولا أم إيران أم دولة فلسطينية «قابلة للحياة» أم أفغانستان والمخاوف من انهيار باكستان أم إن هناك أولويات أخرى مجهولة اللون والطعم والرائحة؟
ضياع أميركا في تحديد برنامج أولوياتها أدخل سياستها الخارجية في فوضى «هدّامة» دفعها إلى استفزاز حلفاء تحتاج إلى مساعدتهم لمعالجة ملفات دقيقة وحساسة كالمشروع النووي الإيراني أو البرنامج النووي العسكري الكوري أو موضوع باكستان وخطورة انهيار النظام في بلد يمتلك ترسانة نووية ويلعب دوره في مراقبة الحدود مع أفغانستان.
سياسة الفوضى «الهدّامة» بدأت في أسلوب التعامل مع روسيا لكونها تمثل ذاك الشريك في القرارات الدولية. فواشنطن استخفت كثيرا بقدرات موسكو وإمكاناتها حين أخذت تستفزها بملفات تفتح عليها مشكلات تمس أمنها واستقرارها وتزعزع مصالحها وعلاقاتها التقليدية مع محيطها الجغرافي ومجالها الحيوي. وبدأت الفوضى حين قررت أميركا مدّ شبكة صواريخ دفاعية في حوضها الطبيعي وحدائقها الخلفية. بعدها أخذت تشجع دول البلقان على إعلان الاستقلال من جانب واحد من دون احترام لمصالح روسيا. ثم أخذت تتوجّه إلى أوروبا الشرقية وتعمد على إغراء أوكرانيا وجورجيا بالدخول في مظلة الحلف الأطلسي. وأخيرا شجّعت الرئيس الجورجي على استفراز موسكو في عقر دارها وتوجيه إهانات وتحديات عسكرية بذريعة أنّ روسيا ضعيفة وغير قادرة على التحرك والدفاع عن مصالحها.
هذه الملفات المتمثلة في عناوين شتّى (الدرع الصاروخية، البلقان وكوسوفو، الحلف الأطلسي وامتداداه إلى جوار «الدب»، جورجيا ومسألة الإقليات في القوقاز) شكلت في مجموعها ردة فعل انفجرت عسكريا في تلك المواجهة التي تشعبت وتداخلت عناصرها ولم يعد بالإمكان معرفة مخارجها.
السؤال لماذا أثارت إدارة بوش كلّ هذه الملفات الحساسة دفعة واحدة، واتجهت نحو تصعيدها في السنة الأخيرة من العهد الجمهوري مع أنها كان بإمكانها تجنبها حتى تنجح في تمرير أولوياتها التي حددتها واشنطن بعد خروج معظم رموز تيار «المحافظين الجدد» من المواقع الحساسة؟
هناك أجوبة مختلفة منها تجدد الخلاف بين مكتب نائب الرئيس وتحالف الثنائي رايس - غيتس، ومنها ضعف الإدارة وعدم قدرتها على تطوير ضغوطها لتطويع أولمرت بشأن مشروع حل مؤقت في الضفة الغربية أو تخويف طهران بشأن برنامج تخصيب اليورانيوم أو انتزاع معاهدة أمنية من حكومة بغداد تضمن وجودها العسكري في العراق لفترة مفتوحة زمنيا.
كلّ هذه الاحتمالات واردة؛ لتفسير تلك الأسباب التي دفعت إدارة بوش في السنة الأخيرة من عهدها إلى فتح ملفات إضافية بعد أن كادت تنجح في غلق الكثير من بؤر التوتر الدولية والإقليمية.
الآنَ تبدو واشنطن ضائعة في الاختيار وتحديد برنامج أولوياتها بعد أن اقحمت نفسها في فوضى «هدّامة» قبل أنْ تنهي معالجة أزمات تحتاج فيها إلى تعاون موسكو وبكين لاحتواء عناصرها التي قد تنفلش مجددا وتعطل عليها إمكانات السيطرة على تفاعلاتها وتداعياتها.
نظرية الفوضى «البناءة» و «المنظمة» التي ابتكرها تيار «المحافظين الجديد» لتبرير سياسة الضربات الاستباقية أخذت تمتد وتنتقل إلى إدارة بوش قبل أشهر من مغادرتها البيت الأبيض. فالأولويات التي ارتسمت في جدول أعمال الخارجية الأميركية منذ العام 2007 تعرضت الآنَ إلى اهتزازات وضعت مجموعة ملفات على درجة واحدة ولم يعد بالإمكان التركيز على نقطة ساخنة وإهمال أخرى. فكلّ الملفات مهمّة ولا تعرف الإدارة كيف تعيد ترتيبها لمعالجة أزماتها. فهناك البلقان إلى جانب الدرع الصاروخية إلى جانب جورجيا والقوقاز والبحر الأسود ونفط قزوين. وهناك أيضا العراق إلى جانب أفغانستان وباكستان إلى جانب إيران ونفط الخليج وفلسطين.
أنّها فوضى دولية في الأولويات الأميركية. وأخطر ما في هذه الفوضى أنّها غير «منظمة» وبالتأكيد غير «بناءة».
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2183 - الأربعاء 27 أغسطس 2008م الموافق 24 شعبان 1429هـ