العدد 2183 - الأربعاء 27 أغسطس 2008م الموافق 24 شعبان 1429هـ

إنعام كجه جي... قصّ جذاب يتناول المفجع بسخرية تبكي وتضحك

رواية «الحفيدة الأميركية» للكاتبة العراقية إنعام كجه جي تبرز أن الكاتبة ذات قدرة سردية غير عادية تستطيع - بادعاء البساطة أو حتى التبسيط في أحداثها وحبكتها - أن تجعل القارئ يعيش الفواجع والأحزان العراقية «المعتقة» طويلا.

ولربما شعر القارئ أن الرواية هي من بين ندرة من الأعمال القصصية العربية التي تستولي عليه، فتجعله يحجم أو ينسى إعطاء نفسه فرصة بين مدة من القراءة وأخرى ليتحول الأمر إلى قراءة متصلة تجري بلذة وشغف.

الرواية التي جاءت في 195 صفحة متوسطة القطع صدرت عن «دار الجديد» في بيروت، ربما جاءت كلمة الإهداء التي خطتها إنعام كجه جي إلى كاتب هذه السطور تختصر كثيرا، لا مما جاء فيها فحسب بل كثيرا مما جرى ويجري في بلاد الرافدين وطوفان الدم والأحزان فيهما. قالت الكاتبة في لطف بدا اقرب إلى التحدي «...إذا كنت تحتمل جرعة إضافية من الوجع العراقي... فتلطف بمطالعة روايتي».

وقد صورت الكاتبة الوجع بطريقة مختلفة لم تقتصر على تصوير الموت والتشرد والحزن والنقمة والغضب.

بدأت الكاتبة روايتها من النهاية. صور تختصر سنواتٍ وأعمارا وفواجع وأحزانا لا تنتهي. الحفيدة الأميركية الجنسية تعود إلى العراق موطنها وموطن أهلها وأجدادها حيث أمضت سنواتها الخمس عشرة الأولى.

عودتها مختلفة كثيرا عن عودة آخرين من أبطال روايات أو أبطال، حياة فعلية إليه أو إلى أوطان أخرى. ومن هنا فإن إنعام كجه جي الصحافية والكاتبة المقيمة في باريس لجأت في كتابها هذا الرابع بعد روايتين وسيرة روائية إلى لعبة مألوفة في عالم الكتابة القصصية وهي ذلك الصراع أو تلك الإغراءات التي تدور من جهة بين «الإنسان» الذي يكتب ومشاعره المختلفة الخبيئة والمعلنة الظاهرة وبين «المؤلف» المحض إذا صح هذا التعبير من جهة أخرى.

تبدو إنعام كأنها تتحدث عن المشاعر والوقائع الفعلية. تقابلها الوقائع والأحداث «الفنية» بمعنى تلك التي قد تدفع إغراءات عدة - وطنية وغير وطنية - المؤلف إليها. وبمعنى آخر فقد يصح القول إنها تشير إلى الأمور الطبيعية الداخلية غير المزينة والى تلك الأمور نفسها التي ستبدو مختلفة إلى حد ما إذا تولتها «الصنعة» الفنية. إلا أن الكاتبة ترفض كما يبدو - ونستعمل هنا لغة النقاد القدامى في شكل خاص - هذا الأمر خشية أن تتحول الصنعة معه إلى تصنع.

كانت عوامل «وطنية» قد جعلت أمها وأباها -ونتيجة الظلم الوحشي الذي لحق بابيها خلال عهد الرئيس الراحل صدام حسين - يهربان من العراق ويحملانها وشقيقها معهما.

أما هي فصارت أميركية خالصة. عادت إلى العراق في عمر الثلاثين لأسباب هي مزيج من الحاجة المادية ثم الشعور الوطني «الأميركي» ثم الحنين إلى الوطن القديم وأهمية ما تبذله الولايات المتحدة لإنقاذ بلد أهلها من الظلم و «حمل» الديمقراطية إليه.

الشأن المادي هو الأهم وقد جاء السببان الآخران سببين مساعدين يهونان اتخاذ القرار. أخذت الحكومة الأميركية بعد ما أعقب تفجيرات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 تدفع مبالغ مالية مهمة جدا بالنسبة إلى الأميركيين المتحدرين من أصل عربي الذين يتقنون لغتي بلديهما السابق والجديد للعمل مترجمين مع القوات الأميركية في العراق بحجة تشجيع التفاهم وإنهاض العراق. بعد بعض التدريبات والإرشادات ارتدى هؤلاء الثياب العسكرية وان لم يكونوا من الجنود المقاتلين.

وسرعان ما بدأت الأوهام تزول. لم يكن قد بقي من عائلة «زينة» وهي ابنة زواج مختلط كلداني آشوري سوى جدتها بعد وفاة جدها الذي كان ضابطا وطنيا عراقيا كبيرا. الجدة على شوقها وفرحتها بتحقق حلم كانت تصلي له وتضيء الشموع أمام الأيقونات ثارت عندما اكتشفت حقيقة عمل حفيدتها ورفضتها، ثم قررت أن تعيد تربيتها وطنيا وقوميا بمساعدة شابين مسلمين وطنيين من عائلة صديقة كانا مثل ابنين لها. وكان احد الشابين - في واقعية ورمزية محتملتين - أخا بالرضاعة للفتاة مما حال دون قصة حب بينهما.

في العراق تغيرت الفتاة. عند أول عودة لها إلى أميركا التي لم تحبها أمها وبقيت تحن إلى العراق حملت معها للام ليمونتين من حديقة بيت جدها «اشتهيتهما لأمي التي يبدو أنها اكتشفت نعمة الخذلان قبلي، وتحديدا منذ ذلك اليوم الذي سيقت فيه إلى الاحتفال الكبير في ديترويت لكي تؤدي قسم الولاء لأميركا وتنال بركة جنسيتها...».

«دمعت عيناها وأنا أمد يدي بالثمرتين الصفراوين قطفتهما من البيت الكبير الذي أمضت شبابها فيه... أخذتهما الأم بكلتا يديها... وتنشقتهما بعمق وكأنها تشم مسبحة أبيها وحليب أمها وعمرها الماضي. حياة مغدورة تكومت في ليمونتين».

وقبل «الانتقال» ترسم لنا إنعام حالات مرت بها بطلتها ومنها أنها مرت مع رتل من الجنود في قرية مجاورة لها فيها ذكريات من أيام طفولتها وشاهدت أهلها. ودت لو تستطيع محادثة أهل القرية أي حديث «وكنت أريد أن أتباهى أمامهم بأنني منهم سليلة منطقتهم أتكلم لغتهم بلهجتهم وبأن جدي هو العقيد الركن يوسف الساعور...» وأحست بأن عليها أن تكون مثل الممثلين البارعين في التقليد «القدرة على التقمص وتغيير الشخصيات، وعلى أن أكون ابنتهم وعدوتهم في آن وأن يكونوا في الوقت نفسه أهلي وخصومي».

«من يومها بدأت أعي إصابتي بأعراض داء الشجن وأتعايش معه ولا أبحث له عن دواء. كيف أقاوم الداء الذي أعاد إنجابي وهدهدني»... لقد واجهت الفتاة آلام شعبها ومآسيه بعد ما تصفه بأنه سذاجة ووهم عن الحرية والديمقراطية.

معرفة الكاتبة بالتفاصيل عراقيا وأميركيا تبدو جيدة مقنعة لا يشوبها ارتجال أو ادعاء نواجهه في بعض الأعمال. لقد أعدت «دروسها» بشكل مقنع مؤثر وموح.

تعود بطلة إنعام كجه جي إلى أميركا وقد حققت «خلاصها» وتوازنها نفسيا وعقليا وربما عمليا. تقول «لا أظن أنني احتاج مصحة نفسية مثل العائدين من العراق. شجني يداويني ولن أترفق به... لن انتحر» (كما فعل صديقها وزميلها البصراوي الذي أسمته مالك الحزين).

«وضعت بدلتي الكاكية في كيس ورميتها في برميل المطبخ... عدت وحيدة... لم اجلب معي هدايا ولا تذكارات. لا أحتاج لما يذكرني. أقول مثل أبي: شلّت يميني إذا نسيتك يا بغداد».

العدد 2183 - الأربعاء 27 أغسطس 2008م الموافق 24 شعبان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً