تمثل تجربة عباس بيضون الشعرية حالة من حالات الشعر العربي الحديث الذي مزق كل صور أبوته التراثية، ليرتدي قميصا فضفاضا خيوطه صناعة معطيات ثقافية فلسفية حديثة من سفاح صراع الحضارات، لذلك يبدو شعر عباس بيضون في مجمل أعماله التي بلغت عشر مجموعات شعرية ورواية واحدة، نصوصا مركبة من مزيج فلسفي وفني تحكي من خلال مشاهداته رؤاه أحاسيسه، وأكثر ما يصبغ بنية شعره التوجه السوريالي من حيث بناء الصورة الشعرية أكثر من كونه مرتكزا فكريا تلتزمه القصيدة في تعابيرها.
إن عباس بيضون في جانب كبير من شعره مولع ببناء الغريب والمرعب حتى تشعر وأنت تقرأ دواوينه أنك تتشنج على سرير الفزع في إيقاع القصيدة، وتكتمل هذه الحالة في تسويق لغة الخراب التي ترفع أطراف خيمة بيضون الشعرية، فهو يكتب الألم بعراء فظ كأنه يكتب على قميص العراء، وكأننا أمام مشاهد غابية نائية البدائية، هكذا هي صوره ولغته مستجلبة من هذا المناخ لتصوره وتتحصن فيه، ولم تكن مجموعته الأخيرة الصادرة عن دار الآداب (الحسد بلا معلم) التي تتظلل بعنوان رينيه شار صاحب المطرقة بلا معلم كما يؤكد المؤلف نفسه في تقديمه للمجموعة - ببعيدة عن الأجواء الجنائزية المعهودة عند عباس بيضون:
أيها المساء الجميل لتكن خفيفا علينا
إذ النوم القرير... قرب فكرة عظيمة
هو وحده تسلية الشتاء
بملابس كاملة على الأريكة نخدع...
هكذا بابا مواربا ينتظر أن تغلقه...
أيد أمينة
ولا ندخل إلى الحجرة الفاغرة من عين الحوت...
أو نصارع في ثيابنا ذلك الشيء الذي لن يخرج من آذاننا...
قبل وقت طويل
إذ لا يمكن بالعادة أن نلين شكا مفترسا
أو نمنع أذى الأشياء التي جعلها...
الأرق أكثر عدائية
يسرف عباس بيضون في بناء قسوة المشهد الشعري واستجلاب الأحاسيس المرعبة التي تتقافز بين ظلال كلماته، وكأن الشاعر ينحت المشاعر على هيئة جثث مشوهة خاوية مفزعة، فحتى الغناء يحوله إلى صفير جارح:
أسمع الوردة تصفر في قلبي
أدخل جلدك
أسمع الدم يصفر في شرياني
أسمع غرغرة بلعومك
ووجع أسنانك
ولا أغفو
من تكات رأسك
أجني صمغ أذنيك
وثمرة لعابك
وسوادا كثيرا من حلقك
أترك قميصي تحت جلدك
بصلتي تحت قلبك
أدخل في هليونك
لكن هذا كله لا يفضي إلى شيء:
«لكن لا أصيب... «لا أتقدم»... «لا أنجو»...
إن عباس بيضون يكتب الرعب لامعا ويقدم الوحشة بأسنانها لتحتل مشاعرنا فتجلدنا القصيدة بفنياتها، تغلق علينا المساحات المضيئة, وتعاقب مشاعرنا وانفعالاتنا، والشاعر في استحضاره للمناخ الشعري الخرائبي، يستدرج الصورة بذات القسوة، فتشعر أنه رسام يلون لوحاته بدمها فهو لا يستعير الألوان لها لكنه يستخدم فرشاة شعيراتها أنصال تحرث الشكل فتنبت دمه، هكذا تبدو شعرية عباس بيضون تفجر الداخلي وتعومه على الخارجي، أنظر إليه وهو يستحلب مناخ القصيدة وصورها من أعمال الفنان الفرنسي (أريستيد مايول ):
أوراق كثيرة
يظنونها ميتة لأنها
لم تسقط من السماء
الأشجار العالية لا تلد نجوما بهذا الحجم
كذلك كنت أرتجف أمام تمثال لمايول
قائلا في سري
هكذا يفعلون بورقة جميلة
يظنونها ميتة
لقد جعلوا أجسادا خالية من الرغبة
غير قادرة على أن تؤذي نفسها
لا يصح مع ذلك أن نخلط
بين الأشجار والثريات
بين النفوس الميتة
وعاريات صالة الشتاء
إن الشاعر شأنه شأن أوائل السورياليين يقمع الواقع الموضوعي بالمخيلة الذهنية التي تنوب عنه في بناء الخطاب الشعري، حيث يعلي الشاعر عالم الذات الطاغي على ما سواه، وينتصر منتج اللاوعي الذي يترجمه هذيان مفرط بالتداعي الغائم، وهذا يكرس لغة الغرابة والإدهاش المصادم إيجابيا لمخيلة المتلقي:
أنفاسك تبحث عنه
لكن
يحزنه أكثر أن لا
يلمس رموشك أن لا
تكوني ورقة شافية
أنفاسك تبحث عنه ولا
يستطيع
أن يتخطى خفقة قلبه التي قد
تتحول مع ذلك
إلى قبضة
يعيش الشاعر غربة مضاعفة، يتسلق قمم وحشته عبر لغة كتابته التي توقظ فيه فجيعة شديدة التأثير مما يضغط على تعبيره الشعري لاختيار عبور مضاعفة ينفذ إلى ما يجيب عن أسئلته في الحنين والتعالق مع الفضاء الحيوي - للإنسان - الذاتي والموضوعي. لقد غمست يقظة الفجيعة المتولدة عن الاغتراب الحاد عباس بيضون بماء القلق التي تسقي أرضا «تولد أشجارا» قزحية لا ترجع إلى أصل مما يلقى غلالة سرمدية من الغموض والطلسمية على تعابيره عن الحنين إلى الأماكن والأشياء التي يستعيدهما في لغة تستنبت الموحش:
لكن القلق...
بلا لون
وإذ تتنفس العينان
قد لا يكون ذلك
سوى حرير...
الوحشة اللماع
يسعى عباس بيضون عبر هذه الآلية في تكوين الخطاب الشعري إلى تقديم قصيدته بوصفها رؤى كونية للوجود، ويستغرق ذلك إلى حد يوصل الشعرية بسمت فلسفي لاستبصار بعض مفاتيح خريطة كنه الحياة وتأويلات فلسفتها، وهكذا تلتبس شعرية بيضون بإبهام مثير، إنه يتبع أثر الحلم في الطريق إلى إعادة تشكيل الذات والوجود في شعره، تلك هي أبرز سمات شعر عباس بيضون في نتاجه الجديد الذي لم يتقدم على ماضيه بوضوح، وكأن الشاعر مشغول بكم هذا الشعور أو تلك الرؤية التي وصل إليها فاستراح في ظلال قناعته بها .
* كاتب سوري
العدد 2183 - الأربعاء 27 أغسطس 2008م الموافق 24 شعبان 1429هـ