كلّما خلتْ السخرية من أمة، كلّما كان ذلك نذيرا لمزيد من الغياب فيها. حين يتسلل الساخرون واحدا تلو الآخر، لا تحتاج الى كبير جهد كي تكتشف حجم المأزق الذي سيمر به الوسط الذي أشعله طوال سنوات حياته، حراكا، واستفزازا، والتفاتا، والذي ظل مهملا، أو أريد له أن يكون مهملا.
ضمن هذا السياق، يظل رحيل الشاعر والمسرحي والسيناريست العربي السوري محمد الماغوط، واحدا من المآزق الكبرى التي يعيشها واقع العرب المتشظي اليوم، مثلما كان حضوره واحدا من المآزق الكبرى والملفتة، ليس في النسق والطريقة التي رأى وتعامل وكتب وفكّر فيها الماغوط، بقدر ما هو في كمّ التأسيس الصعب، من خلال ظروف حياتية لم تكُ سخية معه على الإطلاق، ومن خلال فقر وُشم به حتى فترات متقدمة من عمره، على رغم أن جائزة الشاعر الراحل سلطان بن علي العويس، عوّضته الكثير، وفرح بها كما يفرح «الطفل بالطابة»، ولم ينس أن يتهكم أو يسخر على ما تبقى من أحواله المعلقة بالقول: سيذهب جزء من الجائزة الى الأدوية، والجزء الآخر الى شئ من اللذة» الكأس والدخان!.
الماغوط الذي لم يشهد الأدب العربي منذ قديمه الى الآن قرينا أو شبيها به في تهكمه الحاد والجارح والعميق، يترك وراءه فراغات بالجملة، ويضع ذلك الضرب من الكتابة والأدب في مهب محاولات تجريبية أو منسوخة تظل عاجزة عن الاقتراب من اليسير والصادق والحارv والعميق والعفوي مما أنجزه الماغوط طوال أكثر من خمسة عقود من الزمن.
ولعل كم العفوية الجارف، ذلك الذي اكتسبه الماغوط من تعاطيه العميق - لا الخاطف - لكل صور الحياة والمواقف والظواهر وحتى الشواهد من حوله، هو الذي يجعل الواحد منا مبهورا بكم العفوية في تعامله معها من دون فذلكة، أو تغميض، أو محاولة ارتجال، أو استعراض. عفوية تحيلك الى طزاجة الأشياء وكأنه يستنطقها بإمكانات خبير أمني أو ضابط استجواب، وبهذا يمكن النظر الى الماغوط باعتباره خبيرا أمنيا على الرغم من أنّ «رُكَبَه» ظلت تصطك لمجرد ذكر رجل أمن أو حتى شرطي مرور!. ظل الخوف ملازما له الى الدرجة التي ما زال يتذكر معها الاقتحام الأول لمنزله في الخمسينات من القرن الماضي، ما دفعه الى استحالة فتح باب منزله في المساء. ولعل عقدة الخوف التي ظلت ملازمة له طوال تلك السنوات هي التي منحته القدرة الفذة على التعبير عنها وكأنها جزء من التكوين والجينات، أو واحدة من الضرورات لدى أي عربي وجد نفسه واحدا من الرعايا، عليه أن يلزم الحائط والظل، وأن يتجنب وضعه في صور ومشاهد ومواضع مشبوهة حتى لو كان وقوفا على الرصيف من دون مبرر!.
هل يمكننا أن نقترح في هذا الصدد توصيفا ظل يلازم الكثير من موضوعات ومضامين النصوص التي اشتغل عليها الماغوط؟. شاعر الهامش العربي!. وعن أي هامش نتحدث؟ هل هو هامش الحياة أم هامش الأثر، أم هامش السياسة؟ أم هامش الوجود بما يتضمنه من أثر وتأثير؟.
في كتاباته حول الطفولة ظل في المركز من النصوص وإن بدت تلك النصوص مشغولة بموضوعة وصور وملامح الهامش، باعتباره خارج السياق من كل شئ، وخارج السياق من أي أثر. في مجموعة «الفرح ليس مهنتي» الصادرة في العام 1970نقرأ في نص «أيها السائح»:
طفولتي بعيدة.. وكهولتي بعيده..
وطني بعيد.. ومنفاي بعيد
أيها السائح
أعطني منظارك المقرِّب
علَّني ألمح يدا أو محْرَمة في هذا الكون تومئ إليّ
صوّرني وأنا أبكي
وأنا أقْعِي بأسمالي أمام عتبة الفندق
وأكتبْ على قفا الصورة
هذا شاعرٌ من الشرق»
في جلّ أعماله: «شرق عدن... غرب الله»، «خارج السرب»، «سيّاف الزهور»، «سأخون وطني»، و عمله الأخير «البدوي الأحمر». تقف على الاشتغال الحميم والعميق والعفوي على موضوعة العفوية، عفوية تتلمّس ما ينبض في قلب الناس وأعينهم وطاقتهم على التقاط الصور والأشياء القريبة منها والبعيد، على اختلاف إمكاناتهم في مستويات الوعي والإدراك، وذلك ما يفسر اقتراب وانحياز تلك الفئة الى نصوصه وكتاباته عدا عن الذي أوتوا حظا ونصيبا من الوعي والادراك في مراتبهما العليا.
عربيا، وضمن شرائح كبيرة في الوطن العربي، ظل الماغوط حاضرا أكثر من غيره في عدد من أعماله المسرحية، والتي لا أحد ينكر أن نجومية الممثل السوري دريد لحام صادرت الكثير من حقه، باعتبار أن البطولة والجهد لبطل الدور والأداء، إلا أن تلك النجومية الكبرى والمطلقة سرعان ما عادت أدراجها الى الماغوط في أعمال أخرى،: «كاسك يا وطن» وقبلها « ضيعة تشرين» ، عدا عن فيلمي «الحدود» و «التقرير»، و مسلسل « وادي المسك». أي بعبارة أخرى لم ينج الماغوط نفسه من حال التهميش الذي كرّس موهبته له رصدا وتتبّعا وتشريحا، وهذه المرة ليس على يد النظام، بل على يد جمهور عريض من المشاهدين العرب.
ما الذي يمكننا أن ننساه من حياة وكلام ونصوص هذا الصعلوك النبيل؟... مبلغ التبرع الذي كلفه به الحزب القومي الإجتماعي السوري، يوم أن أطلق ساقه للريح لشراء بنطلون، بعد أن قرر مصادرة مبلغ التبرع؟... أم قصة انضمامه الى الحزب، من دون أن يقرأ نظامه الأساسي، ولأنه قريب من منزله، ولأنه يحوي جهاز تدفئة في فصل الشتاء فيما حزب البعث بعيد عن المكان، ولم يكن متيقنا من وجود التدفئة فيه؟ هل ننسى تهكماته التي تنهمر على البسطاء كما النخبة كأنها الصاعقة، كأنها الكلام الذي يمكن لأي أحد أن يقوله ولكنه لن يتمكن من التفكير فيه؟ الكرسي المتحرك الذي بات صديقا له، واكتشف فائدته القصوى خصوصا مع بدء أداء النشيد الوطني، اذ الجميع وقوف، فيما هو ملازم للكرسي؟ هل يمكننا أن ننسى تكراره الذي لا يُمل لمقولة أنه لم يخلق لكي يُنظّر بل لكي يكتب وأن يكون ملازما لحال من العذاب الوافر... العذاب والخوف اللذين يجعلانه أكثر يقظة من كثيرين، ربما يشاركونه ذلك الكم، ولكنهم لم يحاولوا قط أن يكونوا أصدقاء لهما؟.
على أنه في الجانب الآخر من الصورة... الكتابة، تجده واحدا من أرهف خلق الله حين يكون القلب والحب هو محورر النص... رهيفا كنصْل... حادا كخنجر عربي... هشّا كبكاء طفل... مغمورا كناسك... فظا كعسكري:
المرأة التي أحلم بها
لا تأكل ولا تشرب ولا تنام
انها ترتعش فقط
ترتمي بين ذراعيّ وتستقيم
كسيفٍ في آخر اهتزازه.
العدد 2183 - الأربعاء 27 أغسطس 2008م الموافق 24 شعبان 1429هـ