في مقال سابق لي عن التبرعات الخيرية، ذكرتُ بأنّ رجال الأعمال والشركات التجارية الكبيرة في أميركا وبريطانيا يقومون بتعيين شركات استشارية لهم مهامها الرئيسية تقديم استشارات نوعية تساعدهم على اتخاذ قرارات مهمّة بالنسبة للتبرعات التي يرغبون في تقديمها للجمعيات الخيرية، وخصوصا عن حجم تبرعاتهم ومتى ولمن وكيف يتم تقديمها؟ لكي يتحقق الهدف المنشود من هذا التبرعات.
ما دعاني لمعاودة الكتابة في هذا الموضوع هو الخبر الذي تناقلته الصحف المحلية عن قيام إحدى الشركات الوطنية في البحرين بتوزيع 20 ألف من السلال الرمضانية على العوائل المحتاجة في مختلف مناطق البحرين. الشكر موصول طبعا لهذه الشركة التي يعلم الجميع عن مشاركتها بقوّة في مشاريع الخير الكثيرة.
لكن المتتبع للطريقة التي تتبرع بها يكتشف بأنّ جل هذه التبرعات والكم الأكبر منها تذهب لمشاريع المؤسسات الحكومية أو مثيلاتها التي من المفروض أنْ تكون مصاريفها العامّة ضمن موازنة الحكومة المعتادة؛ أي أنها تقع ضمن مسئولية الدولة وتحت إشراف جهازها الإداري والمالي.
فإذا علمنا أنّ تبرعات هذه الشركة تقدر بمليوني دينار سنويا، كما تعلن عنها دائما، فكم تصل منها للصناديق الخيرية الثمانين التي تعيل 10 آلاف عائلة شهريا؟
نظرة بسيطة على تبرع الشركة العينية من السلال الرمضانية لا تتجاوز كلفته 40 ألف دينار؛ أي 2 في المئة فقط من مجمل تبرعاتها في السنة. فهل هذا عدل؟
هذه التبرعات تصل للعوائل مباشرة وهذا أمر جيّد ولكن كيف تتمكّن الصناديق الخيرية إذن من أنْ تستثمر وتموّل نفسها بنفسها وتعتمد على ذاتها في حالة أنّ معظم هذه التبرعات هي عينية فقط؟.
لقد استلمت عددا من المكالمات من بعض ممثلي الصناديق الخيرية يشكرون هذه الشركة وغيرها على هذه التبرعات العينية، ولكن ينتقدون حجم هذه التبرعات (كيلو دهن، وكيلو هريس... الخ) بقيمة دينارين فقط أو أقل يكفي عائلة واحدة ليوم واحد فقط . كما أنّ هذا المبلغ تصاحبه كلفة إدارية كبيرة ووقت ثمين في التنفيذ والتوزيع من كلا طرفي المعادلة؛ أي الشركة والصناديق. ينتقد ممثلو الصناديق أيضا هذه المساعدات التي لا تساوي شيئا يذكر أمام التبرعات المقدّمة الأخرى لمشاريع الحكومة من جهة وأمام نسبة أرباح المصارف والشركات الكبيرة من جهة أخرى. كما يؤكّدون على عدم اقتناع العوائل المحتاجة ببساطة هذا النوع من المساعدات غير الكافية والتي تصاحبها أيضا من الدعاية «Propaganda» الشيء الكثير.
أعلم بأنّ هناك متبرعا قد تعامل بهذا الأسلوب سابقا ولكنه ارتضى عدم إتباع هذه الطريقة في تبرعاته واستخدم أسلوبا أفضل وأسهل، وذلك بالتبرع ماديا ومباشرة لهذه الصناديق حتى يكون لهذا التبرع فائدة أكبر لها وحتى يساعدها على الاستمرارية. بودي أنّ أؤكد أيضا للمتبرعين الكبار بأنّ هذه الصناديق لم تعد حاضنة فقط للعائلات المحتاجة ولكن أهدافها تعدت ذلك لخدمة قضايا تنمية المجتمع المستدامة، مما سيحتم تغيير أسمائها مستقبلا من صناديق خيرية»Charity Funds» إلى ما يسمّى بـ»منظمات تنمية المجتمع» «Community Development Organisations»
وبما أنني ذكرتُ في حديثي عن الدعاية التي تستخدمها بعض المؤسسات، أليس غريبا أن تقوم شركة محلية بالتبرع بسيّارة لإحدى المؤسسات الخيرية الكبيرة جدا والتي نعلم جميعا بان أصل أموال هذه المؤسسة تبرع كريم من رجل كريم ونبيل؛ أي أنّ هذه الجهة بغير حاجة لمثل هذا التبرع بل أنها تسمو بتوجهاتها عن ذلك. أليست الصناديق والجمعيات الخيرية الأخرى إذن أولى وأحق بذلك التبرع؟
ضمن دراستي لبعض حالات التبرع في المملكة قمتُ مؤخرا بإرسال 30 رسالة إلى عدد من المصارف الكبيرة العاملة في البحرين، تحث على التبرع، لمعرفة مقدار اهتمام هذه المصارف الوطنية والأجنبية الكبيرة وجس نبضهم. الغريب أنّ أول جواب استلمته من أحد المصارف هو أنّ الموازنة المخصصة للتبرعات الخيرية قد استنفذت! ولكن بقليل من البحث والتقصي اكتشفت أنه لم يصدر من هذا المصرف فلس واحد لأيّ عمل خيري داخل المملكة وأنّ المصرف غير معروف عند أيّ من الصناديق والجمعيات الخيرية بتقديم أيّ نوع من التبرعات، ولذلك جاء الجواب «للتهرّب» فقط.
بقي أنْ أضيف، نقلا عن موقع إسلام أون لاين، بأنه في العام 2006 بلغ إجمالي الثروات الشخصية للأثرياء العرب نحو 800 مليار دولار، يملكها نحو 200 ألف شخص وتتركز معظم هذه الثروات في دول الخليج العربية بنسبة تزيد على 90 في المئة. وأوضحت دراسة اقتصادية أعدّها اتحاد المصارف العربية أنّ نصف هذه الثروات يملكها سعوديون؛ إذ يصل حجم هذه الثروات الشخصية قي السعودية إلى 241 مليار دولار، يملكها نحو 78 ألف شخص.
في البحرين وفي هذا الشهر بالذات زفت لنا الجرائد خبرا عن أنّ مصرفا مقره البحرين حقق أرباحا وقدرها 142 مليون دولار للستة أشهر الأولى فقط من هذا العام.
وبالرغم من ذلك، فإني أجزم بأنكم ستوافقونني الرأي بأننا لم نسمع منذ زمن بعيد جدا، خبرا من الإعلام العربي عن تبرع أحد من أثرياء الدول العربية أو الخليجية ورعايته المالية لمشروع تنموي عربي كبير بالرغم من تكدّس الأموال في مصارف كثيرة في أنحاء مختلفة من العالم.
أعتقد بأنه قد آن الأوان بأن نرتقي قليلا بنشر ثقافة التبرع والمسئولية المجتمعية من أجل عالم منصف وشراكة مجتمعية واضحة.
وعلى الصعيد المحلي، بودي أنْ تقوم مؤسساتنا الوطنية بالذات بإعادة النظر في المساعدات الضئيلة وغير الكافية أبدا للصناديق والجمعيات الخيرية وفي تغيير سياساتها غير المكترثة حتى بفكرة التبرع من الأساس.
إننا إنْ أردنا أنْ نكون صادقين وجادين في محاربة آفة الفقر أو الإقلال من تأثيرها على أسرنا المحتاجة، فإنه يتوجّب علينا أن نبدأ بوضع تشريعات وقوانين توجب على هذه المصارف والشركات وخصوصا الرابحة منها أنْ تستقطع نسبة من أرباحها للخير بحيث أنْ يتم تسخيرها فقط للفئات المحتاجة في المجتمع والمغلوب على أمرها وليس لأخذ دور من الواجب أنْ تقوم به الحكومة نفسها بحكم مسئوليتها الإدارية والمالية عن ذلك.
إقرأ أيضا لـ "حسين مدن"العدد 2182 - الثلثاء 26 أغسطس 2008م الموافق 23 شعبان 1429هـ