قبل أن يعلن الحزب الديمقراطي رسميا ترشيحه باراك أوباما لرئاسة الجمهورية أعلنت شرطة ولاية كولورادو عن اعتقال مجموعة من المسلحين في دنفر اشتبه أنها تخطط لاغتيال المترشح الأسود إلى البيت الأبيض. هذا قبل أن يعلن عن ترشيح أوباما رسميا، فكيف سيكون الوضع بعد انطلاق حملة التنافس على الرئاسة التي ستمتد إلى 9 أسابيع؟
اعتقال مجموعة مسلحة بتهمة التحضير لعملية اغتيال يعطي فكرة عن الصعوبات التي ستواجه الحزب الديمقراطي والعقبات التي تعترض أوباما قبل حلول موعد الإعلان عن الرئيس الفائز في 4 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. وترشيح الحزب الديمقراطي أوباما لأعلى منصب في هرم الدولة يعتبر ثورة ثقافية في عالم حزب اشتهر منذ الستينات من القرن الماضي بطموحه نحو تغيير صورة الولايات المتحدة المحلية والدولية. وخوض أوباما معركة الرئاسة يشكل تحديا ثوريا لصورة نمطية استقرت عليها هيئة الرئيس منذ الاستقلال.
المعركة ليست بسيطة ويتوقع أن تشهد سلسلة احتجاجات واهتزازات وربما اعتقالات لمجموعات اغتيال أخرى تريد منع التغيير أو تأخيره لفترة سنوات. فهل ينجح الحزب الديمقراطي في محاولته، أم أنه سيتعرض لمواجهات نمطية تكسر صورته أمام الناخب والعالم؟ ظروف الحزب الديمقراطي الآن تختلف عن تلك التي واجهها في مطلع ستينات القرن الماضي حين نجح في تأمين فوز أول كاثوليكي لرئاسة الدولة وانتهى أمره بالاغتيال. وظروف الحزب تختلف الآن عن تلك التي واجهها في نهاية الستينات حين اغتيل مرشحه للرئاسة روبرت كنيدي.
الظروف اختلفت إلا أن السلوك النمطي في التعامل مع منصب الرئاسة لايزال يسيطر على اختيار الناخب (دافع الضرائب). المزاج تغير نسبيا إلا أن نسبة التغيير يرجح أنها لم تتوصل إلى درجة الانقلاب لتقبل بهيئة تعرضت للتشويه خلال فترة لا تقل عن خمسة قرون.
لاشك في أن الناخب الأميركي الذي اختار جون كنيدي أراد التغيير لكن المؤسسات والأجهزة وقنواتها التابعة رفضت الاختيار ونظمت عملية اغتيال لم تكشف تفصيلاتها حتى الآن. والناخب الأميركي الذي اتجه نحو تأييد شقيق كنيدي للرئاسة قطعت الأجهزة عليه الطريق وشطبته قبل أسابيع من بدء الاقتراع.
الحادثان ساهما في تأجيل التغيير نحو 40 عاما. وخلال الفترة المذكورة دخلت على المزاج الأميركي متغيرات كثيرة أخذت تظهر تباعا على المرئيات والشاشات من خلال عرض أشرطة ومسلسلات تتحدث لغة مضادة للعنصرية والتمييز. بعدها أخذت الإدارات الأميركية لا تتردد في تكليف الملونين في تحمل مسئوليات رسمية في الأمم المتحدة أو سفارات الولايات المتحدة. بعدها تطور الانفتاح وبدأت الأجهزة تتقبل أن يتحمل الملونون مسئوليات في قيادة الجيش ورئاسة الأركان والدفاع والخارجية من دون تردد أو حرج.
هذا التطور في الصورة النمطية وموقع الملون ودوره في المؤسسات الرسمية أخذ يتشكل في ثقافة ذهنية تحتاج الآن إلى اختبار ميداني. فالفترة السابقة تعتبر محطة زمنية تجريبية لفحص مدى استعداد الناخب (دافع الضرائب) للتصويت لمترشح أسود إلى الرئاسة وآخر كاثوليكي إلى منصب نائب الرئيس. واختيار أوباما لكاثوليكي يشكل إضافة نوعية إلى مدى الرغبة في مواصلة عملية الصدم لكسر الحواجز وتخطي العقبات وصولا إلى التغيير. فالصدمة مزدوجة على المستويين وهي في المعايير التقليدية الأميركية تعتبر جديدة كليا وتحصل للمرة الأولى. واختيار أوباما لكاثوليكي لمنصب نائب الرئيس يؤكد أن الحزب الديمقراطي اتخذ قرار المغامرة وعقد العزم على السير في منعطف التغيير إلى نهايته. فلو أرادت قيادة الحزب التسوية لنصحت أوباما أن يختار إلى جنبه أحد الوجوه الناشطة من «الواسب». فهذه الفئة تعتبر تقليديا تلك الكتلة المختارة لأنها تتشكل من روافد أوروبية أنغلوساكسونية بروتستانتية بيضاء، إلا أن أوباما اختار الأبيض الكاثوليكي وليس البروتستانتي وهذا يشير إلى وجود إرادة في الحزب الديمقراطي ترفض التسوية وتضغط باتجاه تعديل التوازن وكسر الصورة النمطية لهيئة الرئيس ونائبه.
التحدي والمغامرة
الحزب الديمقراطي قرر كما يبدو استكمال التحدي حتى لو كلفته المسألة الرئاسة كلها. ورهان الحزب على التغيير يطرح فعلا مجموعة احتمالات تبدأ بالسؤال عن العناصر التي يعتمد عليها لتحقيق تلك الصدمة التاريخية؟
هناك مجموعة احتمالات يمكن أن تكون ساهمت في صنع قرار الحزب الديمقراطي وشجعته على خوض المغامرة. أولا، اختلاف المعادلة الديموغرافية وبدء غلبة الملونين في الاقتراع والترشيح. واختلاف التوازن السكاني في تكوين صورة المجتمع الأميركي ونمو نسبة الملونين عدديا نقطة مهمة يمكن أن تكون من الأسباب التي دفعت الحزب الديمقراطي بالسير نحو صدمة التغيير.
ثانيا، نمو شريحة من الطبقة الوسطى تجاوزت اجتماعيا فكرة التمييز وأخذت تتجه نحو القبول بمبدأ المساواة من دون اكتراث للأصل والفصل والعرق واللون والدين والثقافة. وهذه الشريحة النامية تنتشر بقوة في وسط الكتلة الايرلندية الكاثوليكية وبنسبة لا بأس بها في مجموعات بيضاء محسوبة تقليديا على «الواسب».
ثالثا، تزعزع وحدة الواسب (الانغلوساكسون البروتستانت) وتوزعها على اتجاهات سياسية بسبب اختلافها على أولويات الدولة وبرامجها الاجتماعية الداخلية (التربية، الصحة، الضمانات والرعايات والتعويضات) وتغليبها على الاهتمامات الخارجية الأخرى.
الحزب الديمقراطي في تمثيله السكاني يتكون الآن من تحالفات متعارضة تجمع الملونين إلى جانب الكاثوليك الأوروبيين إلى تلك الشريحة المتمردة على احتكار «الواسب» لمنصب الرئاسة ومعظم المواقع المركزية في إدارة الدولة. ويشكل هذا التحالف قوة انتخابية ضاربة يمكن أن تحقق تلك الصدمة التاريخية على شرط أن تستمر في وحدتها. فالخوف هو من انقسام التحالف وعدم قدرته على مواصلة المعركة إلى يوم 4 نوفمبر.
مشكلة انفراط عقد التحالف مسألة واردة نظرا إلى كون المغامرة تواجه تحديات غير منظورة تتصل بمدى استعداد الناخب (دافع الضرائب) لتقبل فكرة التغيير وكسر الصورة النمطية للرئيس. فالاستطلاعات التي تعطي أوباما حصة نسبية أعلى أخذت تتراجع لمصلحة منافسه الجمهوري كلما اقترب موعد الاقتراع. وهذا الأمر في حال استمر يعطي مؤشرات إيجابية باتجاه تعزيز فرص جون ماكين، ومعنى ذلك أن رهان الحزب الديمقراطي لم يكن دقيقا في حساباته لأنه لم يأخذ في الاعتبار الجانب النفسي (السيكولوجي) في اللحظات الأخيرة التي تسبق الاقتراع.
الاستطلاعات ليست كافية لتحديد الفائز في الانتخابات وخصوصا أن المعركة الحالية تختلط فيها مجموعة اعتبارات تمزج بين كراهية الشارع لسياسة المحافظين الجدد وتشكل ردة فعل ضد إدارة جمهورية فاشلة وبين طموح للتغيير لم يصل بعد ثقافيا إلى درجة عالية من الوعي تتجاوز كل الموروثات والتقاليد التي تراكمت زمنيا منذ خمسة قرون.
الاستطلاعات تعطي فكرة جزئية عن الصورة الظاهرة بينما صورة الظل تشكل في هذه المعركة نقطة ثقل مهمة لا تعرف إلا في يوم الاقتراع. والأرقام التي تتحدث عن نسبة معينة من الحزب الديمقراطي قررت مقاطعة الانتخابات احتجاجا على عدم اختيار هيلاري كلينتون للرئاسة أو على الأقل لمنصب نائب الرئيس تكشف عن وجود نزعة غير متحمسة لسياسة الصدمة التاريخية والتغيير الشعبي الانقلابي.
معركة أوباما ليست سهلة، وهناك استحقاقات كثيرة تسبق الصدمة. فعليه إقناع جمهور الحزب الديمقراطي بالتوحد ورص الصفوف، وإقناع الجمهور الأميركي بأن الولايات المتحدة الآن لم تعد تلك التي ارتسمت صورتها النمطية المتوارثة في ثقافته الذهنية. والأخطر من ذلك، أن على أوباما إقناع المؤسسات والأجهزة وقنواتها التابعة بأن عهد «الواسب» انتهى وبدأ عصر الملونين... وأن العودة إلى سياسة الاغتيالات لن تجدي نفعا ولن توقف التغيير.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2182 - الثلثاء 26 أغسطس 2008م الموافق 23 شعبان 1429هـ