لم أتوقع، بصراحة شديدة، أن تقابَل رحلتنا بسرب من الحمائم البيضاء تحمل أغصان الزيتون، وأن تتحول السيوف بشكل تلقائي إلى محاريث، أو أن تسرع الحملان إلى أحضان الأسود.
كنا مجموعة يزيد عددها على ستين اسكتلنديا من سبع جاليات دينية مختلفة تقوم برحلة حج مشتركة لزيارة هذه الأرض المقدسة لدى الكثيرين.
لم نأتِ ونحن نتوقع أن يندلع السلام في أعقابنا، وإنما كأصحاب عقائد لهم هدف أكثر محدودية أن نفهم بعضنا بعضا بصورة أفضل، وأن نثبت أن الاحترام المتبادل ممكن دون وجود الإجماع، وأن نثبت أنه بالإمكان عدم الاتفاق على أمر ما دون أن نتعارك عليه.
حققنا بعض النجاح في هذا المجال. استغرب معظم الذين قابلناهم وأعجبوا بالمؤسسة بحد ذاتها، وبتنوع مجموعتنا وتماسكها، وبالشعور بالالتزام المشترك بهذا الهدف.
قال الكثيرون، حتى الذين لديهم خبرة طويلة في مجال عمل حوار الأديان بين الجاليات إن تجربتنا تعتبر فريدة، وأعربوا عن أملهم في أن نكون قد بدأنا توجها معينا. وهذا بحد ذاته يعتبر واعدا، ويبرر دعم الحكومة الاسكتلندية، ورؤية وزيرنا الأول: «اسكتلندا دولة صغيرة، صانعة سلام توفر المساعدات والفرص لحل النزاعات».
صنع السلام قضية صعبة بالطبع. الهدف الذي يمكن تحقيقه بصورة أفضل، هو الأمر التوراتي بالسعي لتحقيق السلام.
ليس الفرق لغويا فحسب، فهو يقيس المسافة بين المثالية والواقعية. عدد قليل جدا منا قدره أن يصنع السلام، ولكن أحدا منا لا يملك سببا لعدم السعي وراءه. حتى لو فشلنا فإن الجائزة تكمن في المحاولة.
لذا لم نأت إلى هنا لنصنع السلام، وإنما لتشجيع إمكان تعايش سلمي. كان يجري تذكيرنا دائما، من الداخل ومن الخارج، بهشاشة الغشاء الذي يمنع الشك من أن يتردى فيصبح عداء.
قال رجل حكيم مرة إن الإنسان لا يستطيع صنع السلام إلا مع أعدائه، فهو لا يحتاج لصنع السلام مع أصدقائه. حتى يفعل ذلك يتوجب عليه أن يراهم ليس فقط كأعداء بل كأناس لهم مواقفهم ومعتقداتهم وطموحاتهم الخاصة. لا يتوجب على المرء أن يحبهم أو حتى أن يثق بهم، وإنما فقط أن يتشارك معهم، على الأقل بهذه المعتقدات والمواقف والطموحات. وقتها فقط يمكن للحلول الوسطى أن تبرز.
رفض الحلول الوسطى هو بمثابة رفض الطبيعة الإنسانية. محو المعارضة قد يوفر راحة مؤقتة، ولكن ما لم يكن ذلك المحو فعليا، فإن البقايا سوف تتجمع مرة أخرى وبعزيمة أقوى، وستستمر الدائرة المفرغة الوحشية بالدوران. ليس هذا هو السبيل. كان من المحبط جدا مقابلة هؤلاء الذين لم يستطيعوا، أو لم يرغبوا برؤية بديل أو توفيق. لحسن الحظ أن ذلك كان بعيدا جدا عن وجهة نظر الغالبية. بالطبع، لم يستطيع اثنان منهم الاتفاق على الحل الوسط الذي يفضلانه، ولكن ذلك أقل أهمية من الطموحات المخفية.
كانت الحوادث الأكثر إيجابية وإنجازا تلك التي أدرك فيها المتحدثون أن ما جَمَعَنا معا كمجموعة كان الإيمان وليس العقيدة أو التبعية، وخاطبونا بتعابير روحانية مناسبة وليس بتعابير سياسية. بالطبع أوجد تنوّعنا تحديات كذلك: ما هو غطاء الرأس المناسب أكثر لهذه المناسبة أو تلك، ما الطعام الذي يمكننا تناوله؟ يضع علماء الاجتماع (وعلماء الدين) أهمية كبيرة على المشاركة في تناول الطعام، لذا أجد غرابة في أن هناك ناشطين في مجال حوار الأديان من الذين يفخرون بأنهم يقدمون وجبات مقبولة دينيا (كوشر وحلال) بشكل منفصل عن المشاركين الآخرين (قد يرغبون بتمييزها بنجوم صفراء كما فعلت إحدى الخطوط الجوية فعلا).
توصلت مجموعتنا إلى الحل. في الليلة الأولى جرى تقديم طعام الكوشر اليهودي للمشاركين اليهود على طاولة مخصصة لذلك. اقترح أحد الزعماء الكنسيين أن نأخذ صحوننا ونجلس إلى جانب زملائنا. وعندما ثبت عدم إمكانية ذلك بسبب أدوات الأكل، رتبنا ببساطة أن تكون الصحون ورقية والشوك والملاعق بلاستيكية، وتناولنا جميعا طعام الكوشر يوم السبت. لو أمكن حل جميع مشكلاتنا بهذه السهولة!
إلا أن ذلك ذكّرنا أننا مجموعة من أديان مختلفة، مما يجسد التناقض بأن خلافاتنا هي التي جمعتنا معا. وهي خلافات لا يمكن تغطيتها من خلال تناول أكواب الشاي التافهة. من طبيعة الديانة أن يؤمن كل منا أن الآخرين على خطأ أساسي وعميق بل وحتى في ضلال ميتافيزيقي. على رغم ذلك نستطيع بحث هذه الفروقات باحترام متبادل، ونستطيع فهم معتقدات بعضنا بعضا بصورة أفضل، حتى إذا كان ما نعتقد أننا نبحثه هو سبب كونهم على خطأ. هذا هو النموذج الذي حاولنا كمجموعة أن نجعله يؤثر على خلافاتنا السياسية كذلك، وأعتقد أننا نجحنا، على الأقل فيما يخصنا نحن، وإن شاء الله، كنموذج للآخرين كذلك. هل يحتمل أن ذلك كان تحليقا للحمائم البيض؟
*مدير المجلس الاسكتلندي للجاليات اليهودية، وهو ناشط في هيئات عديدة للأديان بين الجاليات في اسكتلندا، وحصل على جائزة «MBE» هذه السنة لعمله، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 2182 - الثلثاء 26 أغسطس 2008م الموافق 23 شعبان 1429هـ