العدد 2180 - الأحد 24 أغسطس 2008م الموافق 21 شعبان 1429هـ

هجوم أميركي في البحر الأسود

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

دخول بارجة حربية أميركية إلى مياه البحر الأسود محمّلة بالمساعدات الغذائية والمعونات الطبية إلى جورجيا تعتبر دبلوماسيا رسالة سياسية تحت غطاء إنساني. و الرسالة المختصرة تريد التأكيد على أنّ الولايات المتحدة تمتلك الوسائل التي تعطيها أفضلية في التقدّم إلى المجال الحيوي لروسيا من دون أنْ يكون لموسكو القدرات العسكرية نفسها. هذه الحركة الهجومية التي أقدمت واشنطن عليها جاءت في وقت اشتد الخلاف في مجلس الأمن بين الدول الكبرى على تعيين حدود جورجيا. فالولايات المتحدة مدعومة من بريطانيا وفرنسا تصرّ على وحدة أراضي جورجيا وتطالب روسيا بالانسحاب الكامل بما فيها أوسيتيا الجنوبية وابخازيا بينما ترفض موسكو ذاك التعريف السياسي للسيادة الجورجية مشيرة إلى دورها الإقليمي في ضمان أمن حدودها وتلك الأقاليم التي أعلنت عزمها عن الاستقلال والالتحاق بالاتحاد الفيديرالي الروسي.

استمرار اختلاف دول مجلس الأمن على إصدار قرار دولي بشأن الأزمة يشير إلى وجود عناصر تفجير لاتزال تعترض إمكانات التوافق على حل متوازن يحترم المصالح. وعدم التوصل إلى اتفاق سيؤدي لاحقا إلى إعادة فتح ملف الأزمة حتى لو نجحت القوى الكبرى في إقفال أوراقها مؤقتا.

المشكلة القوقازية تبدو حتى الآنَ مفتوحة على احتمالات خصوصا بعد أنْ توقف الهجوم العسكري الروسي بناء على رغبة فرنسية وتدخل الاتحاد الأوروبي. توقف الهجوم عند حدود ميدانية معيّنة ساهم في ترسيم خطوط سياسية للمعركة وأعطى فرصة للولايات المتحدة باستيعاب الصدمة والبدء في تنظيم هجوم دبلوماسي مضاد أنتج مجموعة نجاحات اعتمدت تكتيك تخويف دول أوروبا الشرقية من احتمال عودة «الدب الروسي» إلى ديارها.

الهجوم الدبلوماسي المضاد أعطى دفعة معنوية لإدارة جورج بوش الفاشلة وساعدها على تسجيل نقاط في مرمى الجانب الروسي. فموسكو اضطرت إلى الانسحاب وإعادة نشر قوّاتها تمهيدا لتموضعها في نقاط مراقبة في أرض جورجية تقع على مقربة من حدود أوسيتيا الجنوبية وابخازيا وميناء تصدير النفط والغاز على البحر الأسود. وأميركا أخذت تتقدّم ميدانيا بعد أن نالت موافقة بولندية على نشر «درع الصواريخ» في أراضيها وبدأت تتحرك إنسانيا في بوارج حربية تقترب رويدا إلى شواطئ جورجيا المطلة على سواحل روسيا في البحر الأسود.

هذا التراجع الروسي المحدود والتقدم الأميركي المحدود يكشفان ملامح صورة إقليمية أخذت تتشكل تعاكس تلك التوقعات التي صدرت تحت وقع الهجوم العسكري المضاد الذي قررته قيادة الكرملين. فالفوز الجزئي الذي حققته موسكو في الأسبوع الأوّل أخذ يتلاشى لمصلحة فوز جزئي بدأت واشنطن بتسجيله في الأسبوع الثاني على أكثر من صعيد. الولايات المتحدة مثلا استخدمت الرئيس الجورجي واعتمدت عليه لفتح المعركة واستفزاز روسيا واستدارجها ميدانيا إلى الساحة ولكنها حتى الآنَ ترفض التخلّي عن حليفها في تبليسي بل أنها تبذل جهدها السياسي/ الدبلوماسي لتعويمه ومنعه من الغرق. وهي أيضا تحاول توظيف الهجوم الروسي الجزئي استراتيجيا من خلال توسيع رقعة تحرك أساطيلها البحرية وتطمين جورجيا وأوكرانيا إلى حمايتها وربما ضمان أمنهما وتسهيل دخولهما في دائرة الحلف الأطلسي.

نجاح واشنطن في مد شبكة خطوط تحركها العسكري إلى محيط روسيا الجغرافي في البحر الأسود ومساعدتها جورجيا وأوكرانيا سياسيا وإنسانيا يمهدان الطريق إلى كسر المعادلة الإقليمية وتوسيع رقعة المظلة الأطلسية. وفي حال توصّلت الولايات المتحدة إلى التقدّم نحو هذه العتبة تكون فعلا قد سجّلت مجموعة مكاسب في الحدائق الخلفية لروسيا التي تعاني تقليديا من صعوبات الوصول إلى المياه الدافئة.

احتمالات الرد الروسي

كيف ستتعامل موسكو مع هذه المتغيرات التي ظهرت على الشاشة السياسية؟ بولندا وقعت اتفاق «درع الصواريخ» وتجاوزت مشكلة الخوف من ردة فعل روسيا. البوارج الحربية «الإنسانية» أخذت تعبر البوسفور والدردنيل متوجّهة إلى سواحل البحر الأسود حاملة المساعدات والمعونات. الكرملين أوقف الهجوم وتراجع إلى المواقع التي كان فيها قبل انفجار الأزمة والدول الكبرى تطالبه بالمزيد حتى توافق على قرار مجلس الأمن. الرئيس الجورجي ارتفعت معنوياته مجددا وأخذ يهدد ويتوعد ويطالب الحلف الأطلسي بالمزيد من الدعم السياسي والتغطية العسكرية. الرئيس الأوكراني جدد دعوته لدول الأطلسي بضرورة الإسراع بالموافقة على انضمام بلاده إلى معسكر الحلف.

هذه المتغيرات المعطوفة على تحرشات أميركية في عقر الدار كيف ستتعامل معها موسكو؟ هناك احتمالات يمكن حصرها بالتوقعات الآتية:

أوّلا، سكوت الكرملين وقبوله بالأمر الواقع. وهذا بداية اعتراف بالفشل وعدم امتلاكه تلك القدرات التي تسمح له بالرد لاحتواء التقدّم الذي أحرزه الحلف الأطلسي في بولندا والبحر الأسود.

ثانيا، إعادة الهجوم. وهذا يتطلب ذريعة تسمح للقوّات الروسية بالتقدّم ميدانيا في الأراضي الجورجية وصولا إلى العاصمة وإسقاط الرئيس وإخراجه من القصر. الذريعة الآنَ غير متوافرة سياسيا كما كان أمر موسكو في 8 أغسطس/ آب الجاري. واختراع الذريعة قد تكون سهلة ولكنها مكلفة بشريا؛ لكون المواقع أصبحت مكشوفة ميدانيا ودوليا.

ثالثا، المقايضة. وهذا يعني البدء في جولة مفاوضات ثنائية مع أوروبا من جهة وأميركا من جهة أخرى للتفاهم على مجموعة ملفات أبرزها خطوط إمدادات النفط وأنابيب الغاز وحصة روسيا في معادلة القوقاز وما تعنيه من ضمانات أمنية تلحظ مكانة موسكو ودورها في منطقة تقع في دائرة مجالها الحيوي.

رابعا، عقد صفقة تعتمد مبدأ المبادلة في منطقة أخرى. وهذا الأمر يتطلب تفاهمات دبلوماسية على أصعدة مختلفة وصولا إلى مجلس الأمن وقراراته. فأميركا تطالب روسيا بتنازلات في مواقع رفضت موسكو الموافقة عليها والآنَ روسيا تطالب أميركا بتنازلات في جورجيا وأوكرانيا رفضت واشنطن تلبيتها قبل أن تحصل على هدايا مقابلة من دون شروط وضمانات.

احتمالات الرد الروسي مفتوحة على أربعة أبواب. الأوّل الصمت والاعتراف بالخسارة. الثاني تجديد الهجوم لتعويض الفشل. الثالث المقايضة في ضوء النتائج الميدانية. والرابع المبادلة والقبول بعقد صفقة دبلوماسية تعوِّض أميركا في مكان آخر.

هناك متغيّرات يصعب تجاهلها وهي أخذت ترسم صورة مخالفة لتلك المشاهد التي ظهرت ميدانيا في الأسبوع الأوّل من أزمة جورجيا. الفوز العسكري الجزئي الذي أنجزته روسيا لم يحقق كليا أغراضه السياسية والآن بدأت ترتد الأزمة على موسكو بعد ذاك الهجوم الدبلوماسي المضاد الذي قادته واشنطن في الأسبوع الثاني وصولا إلى تعطيلها صدور قرار عن مجلس الأمن وانتهاء بدخول بارجة حربية إلى الحوض الجغرافي لروسيا.

وصول السفينة العسكرية محمّلة بالمساعدات الغذائية والمعونات الطبية لجورجيا تعتبر رسالة سياسية تحت غطاء إنساني أرادت واشنطن توجيهها لموسكو من البحر الأسود. والسؤال كيف ستقرأ روسيا الرسالة الأميركية؟ هناك لغات كثيرة منها الروسية والإنجليزية... وربما الفرنسية.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2180 - الأحد 24 أغسطس 2008م الموافق 21 شعبان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً