لقد بهرت الصين العالم بأسره في افتتاح أولمبياد بكين في الثمانيات الخمس وهي الدقيقة الثامنة في الساعة الثامنة في اليوم الثامن في الشهر الثامن في العام الثامن بعد الألفين. ولكن هدف الصين لم يكن إحداث إبهار للعالم وإنما تحقيق إنجاز حقيقي من حيث الأبعاد الآتية:
البعد الأول: إدراك قيمة الزمن، والزمن هو أكثر العناصر ندرة، وقيمة الزمن لا تقدر بثمن، ولعل مرجع ندرة الزمن هو أنه لا يتكرر ولا يمكن تخزينه ومن ثم لا يمكن استرجاعه ولا يمكن تعويضه. ومن ثم كان القول العربي المأثور «الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك» ولكن العرب اليوم للأسف سلوكا وثقافيا لم يعطوا الزمن حقه وقيمته، في حين تسابقت شعوب أخرى من أجل الاستفادة من عنصر الزمن. وما يزال معظم العرب والمسلمين يعيشون في الماضي بدلا من التركيز على الحاضر والتفكير والتخطيط للمستقبل. الصين تستلهم الماضي وتعيش في الحاضر وتخطط للمستقبل لذلك حافظت على حضارتها العريقة بينما حضارات أخرى تلاشت وأختفت، وحققت تقدما في حاضرها سواء بالثورة الأولى بقيادة ماوتسي تونغ أو بالثورة الإصلاحية الثانية بقيادة دنغ سياو بنغ وخلفائه من بعده، ولإدراك الصين لقيمة الزمن، فإنها تخطط ليس فقط لتطوير البنية الأساسية وإنما أيضا لتطوير وتنمية الموارد البشرية سواء الكوادر أو الأفراد أو القيادات ولذلك تجد أجيالا متعاقبة من القيادات في شتى المواقع.
البعد الثاني: تحسين حالة الاقتصاد بإحصاءات دقيقة وبيانات دقيقة وإنجازات فعلية. وهذا لابد أن ينعكس أثره على البشر ككل ولهذا خفضت الصين عدد الفقراء من 300 مليون إلى ما يعادل ربع السكان في أواخر السبعينيات من القرن العشرين إلى 20 مليون فقط في أوائل القرن الحادي والعشرين. أي أنها خلال ثلاثين عاما حققت طفرة على مستوى الدولة وعلى مستوى معيشة الأفراد، ولمس كل مواطن تحسن مستوى معيشته في المأكل والملبس والمسكن وفي الترفيه وفي التعليم بل في السفر والسياحة، ودلالة ذلك ما يلمسه أي زائر للصين إذ في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين كان الخبز نادرا وهناك طوابير من أجل الحصول على السلع الأساسية، والآن اختفى ذلك كله سواء في الريف أو في المدينة، وتحسنت المواصلات العامة وتحسنت كل أوجه المرافق العامة، أما وسيلة تحقيق ذلك فكانت الحزم والحسم من ناحية، والتخطيط الدقيق من ناحية ثانية، والقدوة والرقابة من ناحية ثالثة، ورفض الإملاءات الخارجية من ناحية رابعة، مع المرونة في الاستفادة من خبرات الأجنبي وفكره وتقدمه من ناحية خامسة، ومعاقبة المنحرفين والمهملين من ناحية سادسة، ورفض الفكر الأجنبي الذي لا يتماشى مع ظروف المجتمع من ناحية سابعة.
البعد الثالث: هو نقل رسالة للعالم الخارجي أن الصين الجديدة في مطلع القرن الحادي والعشرين هي غير الصين القديمة في القرن العشرين أو حتى صين منتصف القرن العشرين، الصين الجديدة هي صين بناء العلوم والتكنولوجيا، وهي صين التنمية الاقتصادية، وهي في الوقت نفسه صين التقدم والبناء في المجال العسكري، وهي أخيرا صين الوئام والانسجام بين فئات المجتمع. لقد ركز الرئيس الصيني خو جنتاو على مبدئين في فترة توليه السلطة هما التقدم والتنمية العلمية، وعلى الوئام والانسجام وأولهما يتعلق بالمادة والفكر، والثاني يتعلق بالثقافة والسلوك، من هنا يسعى لتجنيب المجتمع نظريات الصراع الماركسية التقليدية أو نظريات المنافسة الحادة (Cut Throat Competition) الغربية. ولهذا ترفض الصين المفهوم الغربي في الديمقراطية، كما ترفض النظرية التروتسكية في حرق مراحل التطور السياسي والثقافي، وتصر على مبدأ التدرج في إحداث التغيير حتى يستوعبه المجتمع من خلال تطوير البنية الأقتصادية التي هي أساس تقدم المجتمعات ومحور تشكيلها.
المبدأ الرابع: إن الصين بإنجازاتها ترفض مبدأ تقديم الأعذار والتماس الأسباب والمسببات وإلقاء المسئولية في الإخفاق على الآخرين أو المجتمع الدولي أو الضغوط الأجنبية بل المسئولية على من هو في موضع المسئولية، وإذا عجز عن الإنجاز يتم استبداله على الفور، ولهذا كان تحقيق دورة الأولمبياد في بكين ونجاحها في إبهار العالم هو تجسيد لواقع التقدم الصيني، وليس خداعا للعالم بمعلومات خاطئة أو أرقام مضللة، وما يحدث من أخطاء يتم التحقيق فيه على الفور.
ولكن الصين ليست كلها إنجازات فهناك إخفاقات أيضا وهناك مصاعب عدة ولكن مقارنة الأمور بتوقيتاتها تجعل أي مراقب محايد يشعر بحجم الإنجاز ومدى التقدم الذي تحقق.
وبناء على ما سبق فإنه من متابعة إنجازات الصين في الأولمبياد سواء في الافتتاح أو في تغيير المجتمع وتحديثه، أو في توزيع الأولمبياد على خمس مدن رئيسية في أقاليم مختلفة، أو في عدد الميداليات الذهبية، أو حتى في إجمالي الميداليات، أو في رفض سياسة الضغوط الخارجية والتوتر الداخلي الموعز به من الخارج كما في حالتي التبت وسينكيانغ، نقول إن متابعة ذلك يقدم لنا درسا كدول نامية لا يكفي أن نقول إننا نرفض التدخل الأجنبي، وإنما ينبغي أن نقدم البديل للشعب من خلال معيشة اقتصادية مريحة وتنمية اقتصادية لصالح الجميع وليس لصالح نخبة صغيرة، وعدالة اجتماعية بدرجات متفاوتة تقوم على مبدأ الكل وفق عمله وعلى الكل أن يقوم بواجباته ولهذا فإن سياسة الحزب الشيوعي الحاكم تعتبر سياسة متوازنة ومتطورة.
وتضاف لها عناصر فكرية جديدة يتم تطبيقها وتنفيذها على أرض الواقع، وليست مجرد مقولات نظرية أو عبارات إنشائية تقال في المناسبات وينساها أصحابها وقائلوها بعد ذلك.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 2180 - الأحد 24 أغسطس 2008م الموافق 21 شعبان 1429هـ