في المشهد الأميركي، يعترف الرئيس الأميركي جورج بوش صراحة بأنه كان متعطشا لدماء العراقيين، وكان يوبّخ قادته العسكريين في العراق الذين يحرصون على الإعلان عن عدد الضحايا الأميركيين من دون أن يكون لديهم سجلٌّ معلن لعدد القتلى والأسرى من الأعداء على تلك الجبهة التي فتحها قبل خمس سنوات، ما قد يوحي، وفي الذكرى السابعة لهجوم 11 سبتمبر/ أيلول، بالرغبة الأميركية في الثأر، وهي رغبة لم تسقط يوما من حسابات أميركا ولا من جدول أعمالها في العالمين العربي والإسلامي، وعلى وجه الخصوص الجناح المتطرف في الحزب الجمهوري الذي يمثله بوش، ونائبه وإدارته الذين ينادون دائما: «اقتلوا الأنذال لكي تنتصروا»؛ لأنهم يتطلّعون إلى جمهور أميركي يطمح إلى تدمير المواقع العربية والإسلامية بعصبية انفعالية تصنعها وسائل الإعلام السائرة في ركاب اللوبي الصهيوني.
إن أميركا ـ كما تشير بعض المواقع الإعلامية ـ تحارب أمة كاملة وشعوبا متعددة، بحيث أصبحت الحرب جزءا من طقوسها لإحياء تلك الذكرى المشئومة، وهذا ما يجب أن تعيه شعوبنا العربية والإسلامية، وأن يتحمّل مسئوليته القائمون على شئون بلداننا الذين اندفعوا، بوعي أو من دون وعيٍ أو تفكير، إلى الخضوع للإستراتيجية الأميركية في الحرب ضد ما تسمّيه الإرهاب، من خلال ملاحقة كل الأحرار الباحثين عن تحرير أوطانهم، وخلاص إنسانهم، والمحافظة على توازن أوضاعهم في حماية ثرواتهم لمصلحة اقتصادهم، لأن النخبة السياسية الأميركية لا تفكر إلا في إيجاد المواقع الداعمة لمصالحها الاقتصادية وسيطرتها السياسية، لتبقى أميركا في موقع الإمبراطوية الكونية القائدة للعالم، ما يجعلها تثير المشكلات في أكثر من منطقة في العالم، وربما كانت حركتها في جورجيا ومشروعها في نشر الدرع الصاروخي حول الاتحاد الروسي، قد جاءت بفعل الخوف من تعاظم قوته في المستقبل.
الانتصار الموهوم في العراق
أما على صعيد علاقتها بأوروبا، فإن الإدارة الأميركية تعمل للاستفادة من نقاط الضعف في الاتحاد الأوروبي أمنيا واقتصاديا، حيث تترك هذه النقاط أكثر من تأثير سلبي في قراراته السياسية، في الوقت الذي تزيد من صفقات التسلّح، ولاسيما في العالم العربي، لدعم اقتصادها، على الرغم من أنه ليس للعالم العربي أي ضرورة للتسلح في ذلك، إلا إذا كانت تعمل على إثارة أكثر من حرب في منطقته، ولاسيما في إثارة التعقيدات الأمنية بينه وبين إيران في مقابل السلام مع «إسرائيل».
ومن اللافت أن المعاهدة الإستراتيجية التي يُفرض على العراق ـ بحسب تعبير وزير الخارجية العراقي ـ عقدها مع الولايات المتحدة، ربما تُوقَّع قريبا بفعل الضغط الأميركي، وتحت سقف الوعود المعلنة بأنها قد تفتح الباب أمام انسحابٍ كبير للقوات الأميركية بحلول العالم 2011، ولكن الوزير العراقي أشار في تصريحه إلى أن المعاهدة لا تنص على موعدٍ لانسحاب المحتل، ما يوحي بأن الرئيس الأميركي يريد أن يقدّم للرأي العام الأميركي إعلانا بالانتصار في حربه الظالمة على العراق، في الوقت الذي يخطط للبقاء طويلا في هذا البلد من خلال إستراتيجيته في المنطقة.
إننا نريد للشعب العراقي أن يفهم اللعبة جيدا، ليواصل ضغطه على المحتل ليرحل في أسرع وقت ممكن ومن دون شروط مسبقة، وعلى المسئولين في العراق أن يرفدوا حركة الشعب لطرد المحتل، فلا شرعية لأية سلطة تعمل على فرض قيود على الشعب بما يوفّر الغطاء للاحتلال للاستمرار والبقاء، ولا بد من أن تتوحّد كل أطياف الشعب العراقي حول الهدف الأساس المتمثل بإخراج الاحتلال دون قيد أو شرط.
خيار المقاومة والانتفاضة
وفي المشهد الإسرائيلي، يطل رئيس وزراء العدو، الذي يتحضّر للرحيل قريبا، كواعظ سياسي للصهاينة في فلسطين المحتلة، لينصحهم بضرورة التوصل إلى اتفاق سريع مع الفلسطينيين، لأن الثمن الذي سيدفعه اليهود في المستقبل سيكون باهظا، وليتحدث عن تلاشي فكرة «إسرائيل» الكبرى، وهو الأمر الذي يشير بطريقة وأخرى إلى التأثيرات الكبرى التي أحدثتها المقاومة في لبنان، والانتفاضة في فلسطين، على العدو على مستوى ذهنية التفكير، وعلى المستوى البنيوي داخل هذا الكيان ونخبته السياسية.
إن هذه الحقيقة ينبغي أن تفتح عيون الكثيرين على تبنّي خيار المقاومة باعتباره الخيار الأنجع والأفضل في مسألة التحرير، وتبني خيار الانتفاضة في حركتها الشعبية والجهادية كونه الخيار الأسلم في التعاطي مع عدو حاقد ومتغطرس. وفي هذه المناسبة، ندعو السلطة الفلسطينية، التي تشجعها وزيرة الخارجية الأميركية على الاستمرار في خط المفاوضات العقيمة والمضي في طريق اللهاث وراء مشروع الإدارة الأميركية في خطب ودّ الكيان الصهيوني وقياداته المتساقطة، ندعوها إلى العودة إلى شعبها وسلوك خط المواجهة المدروسة مع العدو، بدلا من السقوط في الحفرة التي حفرتها إدارة الرئيس الأميركي بالتعاون مع مسئولي العدو، والتي قد يسقط فيها الهيكل الفلسطيني بالتدريج، بعد تضييع قضية القدس واللاجئين وتثبيت الجدار العنصري وإبقاء المستوطنات، وصولا إلى اغتيال حلم الدولة الفلسطينية المستقلة.
ولعلّ من المفجع في هذا المشهد، أن تتابع الجامعة العربية اجتماعاتها ولا يصدر عنها إلا المزيد من القرارات التنازلية، ولا تعالج الخلافات الفلسطينية الداخلية بالجدية المطلوبة، ولا تقوم بخطوة عملية لفكّ الحصار المضروب على الشعب الفلسطيني من قِبَل العدو أو حتى من قبل من هم أعضاء في الجامعة، وذلك فضلا عن التعقيدات العربية في الخلافات المتحركة بين هذه الدولة وتلك، والتي جعلت من الجامعة العربية جامعة التناقضات العربية.
لبنان: إعداد الجيش والحوار أولويات وطنية
أما لبنان، فإنه يواجه العدوان الإسرائيلي الضاغط على شعبه، بين تهديد بالاجتياح للقضاء على المقاومة، أو اختراق لأجوائه بشكل يومي، أو طمع في مياهه، أو إبقاء الاحتلال لبعض أرضه، أو رفض التسليح لجيشه من قِبَل الإدارة الأميركية الحليفة ل»إسرائيل»، ويبقى هناك البعض من اللبنانيين الذين لم يتعقّدوا من العدو الإسرائيلي الذي جربوا عدوانه المتكرر منذ احتلاله لفلسطين، ولكنهم يتعقّدون من المقاومة ويدعون إلى نزع سلاحها لأنه يسيء إلى كيان الدولة ـ حسب تعبيرهم ـ لأنّهم لا يدرسون المسألة دراسة واقعية في قدرات الدولة فيما تملكه من إمكانات رادعة للعدوان عند حصوله، ومن صداقات دولية ضاغطة على العدو في انسحابه من الأرض المحتلة، الأمر الذي يفرض إدارة الحوار حول الاستراتيجية الدفاعية التي تمنح الدولة القوة القادرة على المواجهة عند حصولها.
هذا ما قد يتطلب ـ في الحد الأدنى ـ رفع مستوى سلاح الجيش اللبناني، وتأمين حاجاته من الأسلحة الحديثة والمتطورة، وخصوصا تزويده بمنظومة دفاعية جوية قادرة على ردع الغطرسة الإسرائيلية الجوية، إضافة إلى القوة العددية لجنوده ورفع مستوى تدريبه وتأهيله ليواكب أحدث التطورات التقنية، وذلك بتخصيص موارد مادية هائلة وبشكل مستمر، لا بل متزايد، نظرا إلى استمرار ظهور أجيال جديدة من الأسلحة المتطورة التي تجعل ما سبقها متقادمة العهد قليلة النفع، مقابلة بالأسلحة الحديثة التي تحصل عليها «إسرائيل» من الولايات المتحدة.
من جانب آخر، فإن من الطبيعي أن تكون المقاومة ظهيرا ومساندا للجيش، وذلك من أجل توزيع الأدوار؛ في الدفاع في طريقة الجيش بالحرب النظامية، وفي طريقة المقاومة بحرب العصابات... وإذا كنا نعي طبيعة العدو الصهيوني المتغطرس والاستكانة الدولية لمخططاته، فلا بد لنا من أن نعيد النظر في كامل سياساتنا الاقتصادية والأمنية، وفي كل أوضاع حياتنا الوطنية إذا كنا نريد فعلا التصدي دفاعيا للأطماع الإسرائيلية، وعلى الدول العربية الغنية التي لا تزال تتدخل في الوضع الأمني والسياسي في لبنان لحساباتها الصراعية العربية الخاصة، أن تمنح لبنان بعضا من مليارات السلاح التي تدفعها لأميركا من أجل أن يكون لبنان قوة عسكرية دفاعية ضاربة في مواجهة العدوان الذي لا يواجهون مثله، بما يجعل سلاحهم غير ضروري من جهة الحاجة الملحة.
وختاما، إننا نأمل أن تكون مسألة الحوار منطلقة من ذهنية وطنية تدرك خطورة الواقع الذي يعصف بالوطن في أزماته الداخلية المربوطة بالتدخلات الخارجية، وأن لا تكون المسألة مسألة حسابات طائفية أو انتخابية أو أطماع مالية تدفعها بعض المحاور العربية التي قد تخطط لانتصارات سياسية في لبنان تنقذها من الفشل الذي تعانيه في أكثر من قضية.
إن على المتحاورين التفكير في أنهم لا يمثلون أنفسهم في مواقع الحوار، بل يمثلون اللبنانيين ـ وإن كانوا لا يمثلونهم في شكل مطلق ـ ولذا فإن عليهم أن يتجاوزوا ذاتياتهم إلى ذاتية الوطن كله، وأن يجمّدوا مصالحهم من أجل مصالح الشعب كله، لأن لبنان إذا اهتزّ بفعل طموحاتهم الشخصية أو الطائفية أو المذهبية، فسوف يسقط كل الذين يحسبون أنفسهم في قمة الهرم، لأن الهيكل سيسقط على رؤوس الجميع. وعليهم أن يعرفوا أنهم إذا لم يقلّعوا أشواكهم بأيديهم، فلن يقلّع أي محور عربي أو دولي تلك الأشواك، بل إنها ستضيف إلى لبنان أشواكا جديدة لحساب إستراتيجية المصالح العربية والدولية.
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 2212 - الخميس 25 سبتمبر 2008م الموافق 24 رمضان 1429هـ