قيل إن إعرابيا جاء إلى الفارس والشاعر المعروف في التراث العربي عنترة بن شداد العبسي، وسأله: ما هو سر شجاعتك؟
فأجابه عنترة: الصبر.
فقال الإعرابي: كيف؟
فقال عنترة: ضع إصبعك في فمي، وسأضع إصبعي في فمك.
وبدآ يعضان على إصبعي بعضهما، حتى صرخ الإعرابي. فقال له عنترة لو لم تصرخ أنت، لصرخت أنا.
ما يحصل بين روسيا وأميركا في القوقاز يشبه إلى حد بعيد ما جرى في قصة الإعرابي مع عنترة، حيث الاثنان ينتظران تراجع الآخر. فموسكو المستمرة في موقفها لمنع جورجيا ودول أخرى مؤيدة للغرب في أن تجعل لها موقعا متقدما لأميركا على حدودها يهدد قدرتها ويطوقها عسكريا وسياسيا ترفض التراجع الآن، لأن ذلك قد يؤدي إلى خلل في أمنها القومي. بالمقابل، تعرف أميركا التي نجحت طوال سنين أعقبت نهاية الحرب الباردة في فرض نظامها الجديد على العالم، هي كذلك، أن التراجع أمام الخطوات الروسية سيفقدها كل ما حققته، وقد تجعل من عداوتها لموسكو بداية لانهيار ذلك النظام.
بالعودة إلى مرحلة الحرب الباردة تبدو موسكو وكأنها لا تملك خيارات واسعة على الأرض تستطيع أن تناور بها أمام أميركا وأوروبا، لكن واقع الحال قد يختلف فهي يمكن أن تقوض العديد من خطط واشنطن التي تعودت على تمرير إراداتها على العالم من خلال مجلس الأمن، أو التصرف بشكل منفصل عن المنظومة الدولية كما يحصل مع إيران بشأن برنامجها النووي أو مع سورية (بغض النظر عن نفي أو تأكيد المعلومات المتحدثة عن التعاون التسليحي والصاروخي بين موسكو ودمشق).
إن توقيت الأزمة الحالية بين روسيا الصاعدة اقتصاديا من خلال إدارتها لمصادر الطاقة التي تملكها وسياسيا من خلال موقعها المؤثر في بقعة مطلة على بؤر الصراعات الأميركية في العالم، قد أهلها إلى أن تلعب دورا سياسيا وعسكريا لا يمكن تجاوزه، أما أميركا النازلة بسبب حروبها ضد الإرهاب في العراق وأفغانستان ومحاولاتها الصعبة لمنع إيران من الحصول على القدرة النووية، بالإضافة إلى ملفات أخرى عالقة في كوريا الشمالية والصين وأميركا الجنوبية ومشكلة الشرق الأوسط، فإنها كما تبدو في وضع قد يمنح روسيا القدرة على التحكم أو عرقلة الأهداف الأميركية في حال حصول طلاق سياسي بين الاثنين.
لا أعتقد بأن الكرملين غائب عن باله أن الخلاف مع أميركا في حال تطوره قد يؤدي إلى بروز مشكلات عالمية جديدة لم تكن في الحسبان، فبوجود تعددية قطبية ستؤدي بالتأكيد إلى إذكاء نيران خامدة من تحت رماد القطبية الأميركية الواحدة، وهي قد تشمل دولا وأنظمة مختلفة تتوزع بين قارات إفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية.
خيارات واشنطن أمام الخطوات الروسية الجريئة في احتلال أجزاء من جورجيا، ورفضها الخروج من أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا الانفصاليتين، بالإضافة إلى وقف تعاونها العسكري مع حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ليست قليلة، لكنها تبقى مع ذلك صعبة في ظل تشتت واشنطن في أكثر من نزاع دولي لم يكتمل الآن ومن غير المؤكد إن كان سيكتمل.
ولعل السؤال الجدي هو: من سيصرخ أولا؟ حينها فقط ستبدأ مرحلة جديدة لن تكون في كل الأحوال شبيهة لما كان عليه الوضع قبل تدخل الجيش الجورجي في أوسيتيا الجنوبية، ولربما نشهد نهاية نظام عالمي وبروز نظام جديد.
إقرأ أيضا لـ "علي الشريفي"العدد 2178 - الجمعة 22 أغسطس 2008م الموافق 19 شعبان 1429هـ